الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1748 [ ص: 266 ] حديث رابع لحميد بن قيس منقطع

مالك ، عن حميد بن قيس المكي أنه قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب ، فقال لحاضنتهما : ما لي أراهما ضارعين ؟ فقالت حاضنتهما : يا رسول الله إنه تسرع إليهما العين ، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استرقوا لهما ، فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين

التالي السابق


هكذا جاء هذا الحديث في الموطأ عند جميع الرواة فيما علمت وذكره ابن وهب في جامعه ، فقال : حدثني مالك بن أنس ، عن حميد بن قيس ، عن عكرمة بن خالد ، قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله سواء ، وهو مع هذا كله منقطع ، ولكنه محفوظ لأسماء بنت عميس الخثعمية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة متصلة صحاح ، وهي أمهما ، وقد يجوز - والله أعلم - أن تكون مع ذلك حاضنتهما المذكورة في حديث مالك هذا ، وكانت أسماء بنت عميس - رحمها الله - تحت جعفر بن أبي طالب ، وهاجرت معه إلى الحبشة ، وولدت هناك عبد الله بن جعفر ومحمد بن جعفر وعون بن جعفر وهلك عنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، قتل يوم مؤتة بمؤتة من أرض الروم ، فخلف عليها بعده أبو بكر الصديق ، فولدت له محمد بن أبي بكر بالبيداء [ ص: 267 ] بذي الحليفة على ما روي من اختلاف ألفاظ ذلك الحديث عام حجة الوداع فأمرها أن تغتسل ، ثم لتهل ، ثم توفي أبو بكر رضي الله عنه فخلف عليها بعده علي بن أبي طالب فولدت له يحيى بن علي ، وقد ذكرنا خبرها مستوعبا في كتاب النساء من كتابنا في الصحابة وجائز أن تكون حاضنتهما غيرها ، وقد رويت قصة أسماء بنت عميس في ابني جعفر بن أبي طالب والاسترقاء لهما من حديثها ، ومن حديث جابر بن عبد الله .

وقوله في الحديث " ما لي أراهما ضارعين " ، يقول : ما لي أراهما ضعيفين ضئيلين ناحلين وللضرع في اللغة وجوه منها الضعف ، قال صاحب كتاب العين : الضرع الصغير الضعيف ، قال : والضرع والضراعة أيضا التذلل ، يقال : قد ضرع يضرع وأضرعته الحاجة .

وأما الحاضن فهو الذي يضم الشيء إلى نفسه ويستره ويكنفه وأصله من الحضن والمحتضن ، وهو ما دون الإبط إلى الكشح ، تقول العرب الحمامة تحضن بيضها .

حدثني أبو عثمان سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عمرو ، يعني ابن دينار ، قال : أخبرني عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة ، عن أسماء بنت عميس أنها قالت : يا رسول الله إن ابني جعفر يصيبهما العين أفأسترقي لهما ، قال : نعم لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين .

قال أبو عمر : عروة بن عامر روى عن ابن عباس وعبيد بن رفاعة ، روى عنه عمرو بن دينار وحبيب بن أبي ثابت والقاسم بن أبي بزة وله أخ يسمى عبيد الله بن عامر روى عن ابن عمر ، وروى عنه ابن أبي نجيح ولهما أخ ثالث أصغر منهما اسمه عبد الرحمن بن عامر [ ص: 268 ] روى عنه سفيان بن عيينة وهم مكيون ثقات .

أخبرني أحمد بن قاسم بن عيسى المقرئ ، قال : حدثنا ابن حبابة ببغداد ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن ابن باباه ، عن أسماء بنت عميس أنها قالت : يا رسول الله فذكر مثله ، سواء .

وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، قال : حدثنا إبراهيم بن علي بن غالب التمار ، قال : حدثنا محمد بن الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريح ، قال : أخبرني عطاء ، عن أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى بنيها بني جعفر ، فقال : ما لي أرى أجسامهم ضارعة قالت : يا نبي الله إن العين تسرع إليهم أفأرقيهم ؟ قال : وبماذا ؟ فعرضت عليه كلاما ليس به بأس ، فقال : ارقيهم به .

وبه ، عن حجاج ، عن ابن جريح ، قال : أخبرني أبو الزبير ، قال : سمعت جابر بن عبد الله ، يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص لبني عمرو بن حزم في رقية الحمة ، قال : وقال لأسماء بنت عميس : ما شأن أجسام بني أخي ضارعة ؟ [ ص: 269 ] أتصيبهم حاجة ؟ قالت : لا ولكن تسرع إليهم العين أفنرقيهم ، قال : وبماذا ؟ فعرضت عليه ، فقال : ارقيهم .

وحدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أسامة ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا ابن جريح ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله ، يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأسماء بنت عميس : ما شأن أجسام بني أخي ضارعة ؟ فذكر مثله سواء .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا ابن المفسر ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريح ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال لأسماء بنت عميس : ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة أتصيبهم الحاجة ؟ قالت : لا ولكن العين تسرع إليهم أفأرقيهم ؟ ، قال : بماذا ؟ فعرضت عليه كلاما ، قال : لا بأس به فارقيهم .

وفي هذا الحديث إباحة الرقى للعين ، وفي ذلك دليل على أن الرقى مما يستدفع به أنواع من البلاء إذا أذن الله في ذلك وقضى به ، وفيه أيضا دليل على أن العين تسرع إلى قوم فوق إسراعها إلى آخرين وأنها تؤثر في الإنسان بقضاء الله وقدرته وتضرعه في أشياء كثيرة قد فهمته العامة والخاصة ، فأغنى ذلك عن الكلام فيه ، وإنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن .

وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه ، فإنه يؤمر بالوضوء على حسب ما يأتي ذكره وشرحه وبيانه في باب ابن شهاب ، عن ابن أبي أمامة من هذا الكتاب ، ثم يصب ذلك الماء على المعين على حسب ما فسره الزهري مما قد ذكرناه هنالك ، فإن لم يعرف العائن استرقي حينئذ [ ص: 270 ] للمعين ، فإن الرقى مما يستشفى به من العين وغيرها وأسعد الناس من ذلك من صحبه اليقين ، وما توفيقي إلا بالله .

وفي إباحة الرقى إجازة أخذ العوض عليه ; لأن كل ما انتفع به جاز أخذ البدل منه ، ومن احتسب ، ولم يأخذ على ذلك شيئا كان له الفضل ، وفي قوله " لو سبق شيء القدر لسبقته العين " دليل على أن الصحة والقسم قد جف بذلك كله القلم ولكن النفس تطيب بالتداوي وتأنس بالعلاج ولعله يوافق قدرا وكما أنه من أعطي الدعاء وفتح عليه فلم يكد يحرم الإجابة ، كذلك الرقى والتداوي من ألهم شيئا من ذلك وفعله ربما كان ذلك سببا لفرجه .

ومنزلة الذين لا يكتبون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون أرفع وأسنى ، ولا حرج على من استرقى وتداوى ، وقد ذكرنا اختلاف الناس في هذا الباب عند ذكر حديث زيد بن أسلم من كتابنا هذا وبينا الحجة لكل فريق منهم ، وبالله التوفيق .

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال : حدثنا علي بن المديني ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي خزامة ، عن أبيه : أنه قال : يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها وتقى نتقيها وأدوية نتداوى بها هل ترد من القدر ، أو تغني من القدر شيئا ؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها من القدر .

قال إسماعيل : ورواه يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي خزامة أحد بني الحارث بن سعد ، عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله سواء ، هكذا حدث به سليمان [ ص: 271 ] بن بلال عن يونس ، ورواه عثمان بن عمر ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي خزامة أن الحارث بن سعد أخبره أن أباه أخبره ، قال إسماعيل ، والصواب ما قاله سليمان ، عن يونس .

قال أبو عمر : ورواه يزيد بن زريع ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن أبي خزامة ، عن أبيه ، كما قال ابن عيينة سواء لم ينسبه ، ورواه حماد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن رجل من بني سعد ، عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ؟ مثله سواء لم يذكر اسمه ، ولا كنيته .

قال أبو عمر : قد روى ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث أسماء بنت عميس في هذا الباب ، حدثناه خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز . وأخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن جامع ، قال : حدثنا علي ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا وهيب ، قال : حدثنا ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : العين حق ، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا .

قال أبو عمر : قوله وإذا استغسلتم فاغسلوا يعني غسل المعاين المصاب بالعين [ ص: 272 ] وسترى معنى ذلك مجودا في كتابنا هذا عند ذكر حديث ابن شهاب ، عن أبي أمامة بعون الله تعالى .

أخبرنا عبد الرحمن ، حدثنا علي ، حدثنا أحمد ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني سفيان الثوري ، عن منصور ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ حسنا وحسينا : أعيذكما بكلمة الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ، ثم يقول : هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ إسماعيل وإسحاق .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا علي بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : كنا نرقي في الجاهلية ، فقلنا : يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ ، قال : اعرضوا علي رقاكم ، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك .

قال أبو عمر : سيأتي للرقى ذكر في مواضع من هذا الديوان على حسب تكرار أحاديث مالك في ذلك ، وفي كل باب منها نذكر من الأثر ما ليس في غيره إن شاء الله .




الخدمات العلمية