ألفاظ (الظلم) في القرآن

1 1466

من الألفاظ الواردة في معرض الذم والنكير والرفض في القرآن، تستوقفنا الألفاظ التالية: (الظلم)، و(الجور)، و(الرهق)، و(الهضم)، و(الضيزى)، وهي ألفاظ يجمعها قاسم مشترك، يدل على عمل غير مناسب شرعا أو عرفا أو عادة. 

وسوف نقف مع كل لفظ من هذه الألفاظ، متتبعين معناه في اللغة، وناظرين مواضع توارده في القرآن؛ ليستبين لنا على ضوء ذلك دلالة هذه الألفاظ، وما يجمعها من معان، وما يفرقها من دلالات. 

ظلم

(الظلم) في أصله اللغوي يدل على وضع الشيء في غير موضعه، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه. يقال: ظلم يظلم ظلما -بفتح الظاء وضمها- فهو ظالم وظلوم؛ وظلمه حقه: أي: منعه حقه كله أو بعضه؛ وتظلم فلان: أي: نفى الظلم عن نفسه؛ وتظلم من فلان: شكا من ظلمه. ومعنى قول العرب في أمثالها: من أشبه أباه فما ظلم: أي: ما وضع الشبه في غير موضعه. 

وقد جاء لفظ (ظلم) في القرآن باشتقاقاته المختلفة في أكثر من مائتي موضع؛ وأكثر ما جاء بصيغة الفعل، كـقوله تعالى: {ظلم} (الكهف:87)، و{أظلم} (البقرة:20)، و{يظلمون} (البقرة:57)، و{تظلمون} (البقرة:279)، و{يظلم} (النساء:40)، و{ليظلمهم} (التوبة:70)، و{ظلمتم} (البقرة:54)، و{ظلمهم} (آل عمران:117)، و{ظلموا} (البقرة:59)، {ظلمت} (يونس:54)، {ظلمناهم} (هود:101)، و{ظلمونا} (البقرة:57)، و{ظلمك} (ص:24)؛ وجاء بصيغة اسم الفاعل بدرجة أقل، كـقوله سبحانه: {ظالم} (الكهف:35), و{ظالمون} (البقرة:51)، و{ظالمة} (هود:102)؛ وجاء بصيغة الاسم في ستة عشر موضعا، من ذلك قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا} (النساء:160)، وجاء بصيغة الاسم المشبه بالفعل في موضعين، أحدهما: قوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} (النساء:97)؛ وجاء مرة واحدة بصيغة اسم المفعول، وهو قوله تعالى: {ومن قتل مظلوما} (الإسراء:33). 

وتوارد هذا اللفظ في القرآن على هذه الشاكلة، من حيث الكثرة، ومن حيث تنوع الاشتقاقات، لا بد أنه يحمل دلالات عدة، يبدو لنا منها أمران: 

أحدهما: أن القرآن الكريم أراد أن يصف كل عمل لا يوافق ما أمر الله به ورسوله بأنه ظلم؛ لأنه خروج وإعراض عن أمر الله ورسوله؛ ويكون ذلك إما بظلم الإنسان لنفسه، كتركه للأوامر، وإتيانه للنواهي؛ وإما بظلمه لغيره، كأكله أموال الناس بالباطل.

ثانيهما: دعوة القرآن المسلم إلى تجنب الظلم ومحاربته؛ لأن الظلم ليس من صفات المؤمن الحق. 

ثم إن الظلم ليس على درجة واحدة، بل هو درجات ومراتب؛ فمنه ظلم بين الإنسان وبين خالقه، وأعظمه الكفر، والشرك، والنفاق، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان:13)، وقال سبحانه: {والكافرون هم الظالمون} (البقرة:254)؛ وظلم بين الإنسان وبين الناس، قال تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس} (الشورى:42)؛ وظلم بين الإنسان ونفسه، بإرهاقها بالذنوب والمعاصي، وتفريطها في حق الله، قال تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه} (فاطر:32). وهذه الأقسام الثلاثة عند التحقيق والتدقيق ظلم للنفس؛ فإن الإنسان أول ما يهم بالظلم فقد ظلم نفسه، فالظالم -بداية ونهاية- ظالم لنفسه؛ لذلك قال تعالى في أكثر من موضع من كتابه: {وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون} (آل عمران:117). 

بقي أن نعلم، أن مادة (ظلم) في القرآن وردت على معنى آخر مغاير لما نحن فيه، وهو معنى (الظلمة) المقابل لمعنى (النور)، وحديثنا هنا لا يتناول هذا المعنى. 

جور

و(الجور) في أصله اللغوي: العدول عن الطريق، يقال: جار جورا، إذا مال عن الجادة؛ ثم جعل ذلك أصلا في كل عدول عن الحق؛ فقالوا: جار القاضي في حكمه: إذا فارق جادة الاستقامة، ومال إلى أحد الطرفين. 

وهذا اللفظ لم يرد إلا مرة واحدة في القرآن، وجاء بصيغة اسم الفاعل، وذلك قوله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر} (النحل:9)؛ و(القصد): هو استقامة الطريق؛ يقال: طريق قاصد: أي: مستقيم. و(السبيل) هنا: الهداية والرشاد. و(الجائر): الحائد والمائل والزائغ عن الحق؛ وهو هنا في مقابلة (القصد)؛ كنى به عن طريق غير موصل إلى المقصود، أي: إلى الخير، وهو المفضي إلى ضر، فهو جائر بسالكه. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: هي الطرق المختلفة، والآراء والأهواء المتفرقة، كاليهودية، والنصرانية، والمجوسية. 

رهق

هذه المادة اللغوية تدل على أمرين: أحدهما: غشيان شيء لآخر؛ يقال: رهقه الأمر: إذا غشيه بقهر، وأرهق القوم الصلاة: إذا أخروها عن وقتها، حتى يقترب وقت الصلاة الأخرى؛ ورهقه: دنا منه، وصبي مراهق: قارب البلوغ؛ ويقال: رجل فيه رهق: إذا كان يخف إلى الشر ويغشاه. ثانيهما: العجلة والظلم.

ولفظ (رهق) ورد في القرآن في عشرة مواضع؛ جاء في ثمانية منها بصيغة الفعل، من ذلك قوله تعالى: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} (يونس:26)؛ وجاء في موضعين بصيغة الاسم، أحدهما: قوله سبحانه: {فزادوهم رهقا} (الجن:6)، وثانيهما: قوله تعالى: {فلا يخاف بخسا ولا رهقا} (الجن:13). 

ومعنى قوله: {فزادوهم رهقا}، أي: فزادوهم سفها وطغيانا، أو تكبرا وعتوا. 

ومعنى قوله: {فلا يخاف بخسا ولا رهقا}، أي: لا يخاف نقصا في عمله وثوابه، ولا ظلما ومكروها يغشاه. وثمة أقوال أخر في تفسير الآيتين.

هضم

أصل (الهضم) في العربية: النقصان، ومنه قيل للمنخفض من الأرض: هضم، والجمع أهضام. ومادة هذا اللفظ تدل على كسر وضغط وتداخل؛ تقول: هضمت الشيء هضما: إذا كسرته، ويقال: هضم فلان فلانا: إذا ظلمه وغصبه حقه، فهو هضيم؛ ويقال: امرأة هضيم: أي: ضامرة البطن، ومنه قولهم: قد هضم الطعام: إذا ذهب. وهضمت لك من حقك: أي: أنقصتك؛ والمتهضم: الظالم. 

وهذا اللفظ ورد في القرآن مرتين؛ أولهما: قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} (طه:112). 

قال الماوردي في تفسير قوله تعالى: {فلا يخاف ظلما ولا هضما}، فيه وجهان: 

أحدهما: فلا يخاف الظلم بالزيادة في سيئاته، ولا هضما بالنقصان من حسناته، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، والحسن، وقتادة

الثاني: لا يخاف ظلما بأن لا يجزى بعمله، ولا هضما بالانتقاص من حقه، قاله ابن زيد.

قال ابن عاشور ما حاصله: ويجوز أن يكون (الظلم) في الآية بمعنى النقص الشديد؛ كما في قوله تعالى: {ولم تظلم منه شيئا} (الكهف:33)، أي: لا يخاف إحباط عمله، وعليه يكون (الهضم) بمعنى: النقص الخفيف، وعطفه على الظلم على هذا التفسير من باب تأكيد نفي وجود أي ظلم كان. 

والموضع الثاني الذي ورد فيه هذا اللفظ، قوله سبحانه: {وزروع ونخل طلعها هضيم} (الشعراء:148) (الهضيم): بمعنى المهضوم، وأصل الهضم كسر الشيء حتى يلين، والمراد هنا أنه يخرج تمرا جيدا. 

ضيز

أصل هذا اللفظ يدل على المنع والنقص؛ قال الكسائي: يقال: ضاز يضيز ضيزا: إذا ظلم، وتعدى، وبخس، وانتقص.
وهذا اللفظ لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة، وذلك قوله تعالى: {تلك إذا قسمة ضيزى} (النجم:22). وقد ذكر الماوردي في تفسير هذا اللفظ أربعة أقوال: 

أحدها: قسمة عوجاء، قاله مجاهد

الثاني: قسمة جائرة، قاله قتادة

الثالث: قسمة منقوصة، قاله سفيان وأكثر أهل اللغة. 

الرابع: قسمة مخالفة، قاله ابن زيد

والمتأمل في هذه الألفاظ التي أتينا عليها، يجد أن ثمة معنى مشتركا يجمع بينها، وهو عدم القيام بالأعمال على الوجه المطلوب، ومنافاتها لمنطق العدل، ومجانبتها لمبدأ الصواب. 

وعلى الرغم من وجود هذا القاسم المشترك بين هذه الألفاظ، إلا أن بينها أيضا فروقا لغوية مبثوثة في كتب أهل اللغة؛ من ذلك ما ذكروه من فرق بين الجور والظلم، فقالوا: إن الجور خلاف الاستقامة في الحكم وفي السيرة، تقول: جار الحاكم في حكمه، والسلطان في سيرته، إذا فارق كل منهما الاستقامة في ذلك؛ والظلم ضرر لا يمكن تعويضه غالبا، سواء كان من سلطان أو حاكم أو غيرهما؛ ألا ترى أن الخيانة في المال تسمى ظلما، ولا تسمى جورا، فإن أخذ ذلك المال على وجه القهر أو الميل سمي جورا. ومن أوجه الفرق بينهما أيضا، الافتراق في نقيضهما؛ فقيل في نقيض الظلم: الإنصاف، وهو إعطاء الحق على التمام؛ وفي نقيض الجور: العدل، وهو العدول بالفعل إلى الحق. وقالوا في الفرق بين الهضم والظلم: إن الهضم نقصان بعض الحق، ولا يقال لمن أخذ جميع حقه: قد هضم. والظلم يكون في البعض والكل، ويقال في الكثير والقليل، وفي الذنب الكبير والذنب الصغير؛ ولذلك قيل لآدم عليه السلام في تعديه: ظالم. وقيل لإبليس: ظالم، وإن كان بين ظلميهما من البون ما لا يخفى. 

وقال بعض أهل التفسير، وظاهر قوله تعالى: {فلا يخاف ظلما ولا هضما} أن بينهما فرقا؛ وذلك أن الظلم منع الحق كله، والهضم منع بعضه، فكل هضم ظلم، ولا ينعكس. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة