لفظ (الظن) في القرآن

2 1736

(الظن) درجة من درجات العلم، فهو فوق الشك، ودون اليقين، وبعبارة أخرى: هو اعتقاد وقوع الشيء اعتقادا راجحا. أو: هو العلم المستند إلى دليل راجح، مع احتمال الخطأ احتمالا ضعيفا. وقد عرفه الجرجاني بأنه: "الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض". وعرفه الراغب بأنه: "اسم لما يحصل عن أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدا لم يتجاوز حد التوهم". وعرفه ابن عاشور بأنه: "علم لم يتحقق؛ إما لأن المعلوم به لم يقع بعد، ولم يخرج إلى عالم الحس؛ وإما لأن علم صاحبه مخلوط بشك". ولا تعارض بين هذه التعريفات، بل هي عند التحقيق والتدقيق متفقة على أن (الظن) غير اليقين وغير الشك.   

وإذا يممنا وجهنا نحو اللغويين، وجدناهم انقسموا فريقين من حيث دلالة مادة (ظن): الأول: يرى أن إطلاق (الظن) على (اليقين) إطلاق حقيقي، بمعنى أن (الظن) قد يطلق ويراد به اليقين من حيث الوضع اللغوي. ومن هذا الفريق: الأزهري. والفريق الثاني: يرى أن إطلاق (الظن) على (اليقين) إطلاق مجازي، بمعنى أن (الظن) من حيث الوضع اللغوي لا يفيد معنى (اليقين)، وإنما إفادته لذلك تحصل على سبيل المجاز لقرينة تدل عليه. ومن هذا الفريق: الجوهري، وابن سيده، والفيروزابادي.

ومعاجم العربية تعرف (الظن) بأنه: العلم بالشيء على غير وجه اليقين. ويقال: رجل ظنون: لا يوثق بخبره. ورجل فيه ظنة: أي: تهمة. وهو ظنتي: أي: موضع تهمتي. ويقال أيضا: هو مظنة للخير. وظننت به الخير فكان عند ظني. وبئر ظنون: لا يوثق بمائها. وتذكر تلك المعاجم أن (الظن) قد يأتي بمعنى اليقين، ويستدلون لذلك بالقرآن وبالشعر.

وقد وردت مادة (ظن) في القرآن الكريم في نحو ستين موضعا، نصفها ورد كـ (اسم)، نحو قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن} (الأنعام:116)، ونصفها الآخر ورد كـ (فعل)، مثل قوله سبحانه: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم} (البقرة:46).

ثم إن لفظ (الظن) في القرآن الكريم ورد على عدة معان:

الأول: بمعنى اليقين، ورد على هذا المعنى في مواضع عديدة، منها قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم}، قال أبو حيان: "معناه: يوقنون، قاله الجمهور؛ لأن من وصف بالخشوع لا يشك أنه ملاق ربه، ويؤيده أن في مصحف عبد الله بن مسعود: الذين يعلمون". وقال ابن كثير في معنى الآية: "يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه، وأنهم إليه راجعون".

ونحو هذا قوله تعالى: {وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض} (الجن:12)، قال القرطبي: "الظن هنا بمعنى العلم واليقين ". وبحسب هذا المعنى يفهم قوله تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} (الحاقة:20)؛ وقوله سبحانه: {وظن أنه الفراق} (القيامة:28) .

قال الطبري ما معناه: العرب قد تسمي اليقين ظنا، والشك ظنا، نظير تسميتهم المغيث صارخا، والمستغيث صارخا... قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين، أكثر من أن تحصر.

الثاني: بمعنى الشك، من ذلك قوله عز وجل: {وإن هم إلا يظنون} (البقرة:78)، قال أبو حيان بعد أن نقل أقوالا في معنى (الظن) هنا: "وقال آخرون: يشكون".

والمتأمل في الآيات التي ورد فيها (الظن) على معنى (اليقين)، أو الآيات التي ورد فيها (الظن) على معنى الشك، يجد أن الحمل على أحد المعنيين مستفاد من المعنى الكلي للآيات، وليس بمقتضى الوضع اللغوي؛ فقوله تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه}، لا يستقيم أن يفسر (الظن) هنا بمعنى الشك، أو العلم الذي لا يفيد اليقين؛ وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه}، يقول: أيقنت. ويكون المعنى: أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب، لأنه تيقن أن الله يحاسبه، فعمل للآخرة.   

الثالث: بمعنى التهمة، ومنه قوله تعالى: {الظانين بالله ظن السوء} (الفتح:6)، قال ابن كثير: "أي: يتهمون الله في حكمه". وعلى هذا المعنى قرئ قوله تعالى: {وما هو على الغيب بظنين} (سورة التكوير:24)، بـ (الظاء)، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي؛ والمعنى: وما محمد صلى الله عليه وسلم على ما أنزله الله إليه بمتهم. وقد رجح الآلوسي هذه القراءة، من جهة أنها أنسب بالمقام؛ لاتهام الكفرة له صلى الله عليه وسلم، ونفي (التهمة) أولى من نفي (البخل). ومن قرأها بـ (الضاد)، وهم الجمهور، فمعناها: وما محمد صلى الله عليه وسلم ببخيل، بل يبذل ما أعطاه الله لكل أحد.   

الرابع: بمعنى الوهم والتوهم، ومنه قوله سبحانه: {إن نظن إلا ظنا} (الجاثية:32)، قال ابن كثير: "أي: إن نتوهم وقوعها إلا توهما، أي: مرجوحا". وقال الخازن: " أي ما نعلم ذلك إلا حدسا وتوهما"؛ وعلى هذا المعنى يحمل قوله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} (الأنبياء:87)، قال الراغب: "الأولى: أن يكون من الظن الذي هو التوهم، أي: ظن أن لن نضيق عليه"، وهو قول كثير من العلماء في معنى الآية. ويكون معنى {نقدر}، من (القدر) الذي هو المنع والتضيق، كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} (الطلاق:7)، وليس من (القدرة)؛ لاختلال المعنى؛ إذ لا يليق بالأنبياء - فضلا عن غيرهم من البشر - أن يظنوا أن الله غير قادر عليهم.   

الخامس: بمعنى الحسبان، ومنه قوله تعالى: {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا} (الجن:5)، قال الطبري: "قالوا: وأنا حسبنا أن لن تقول بنو آدم والجن على الله كذبا من القول ". وقال ابن كثير: "أي: ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالؤون على الكذب على الله في نسبة الصاحبة والولد إليه".

السادس: الاعتقاد الخاطئ، كما في قوله تعالى: {فما ظنكم برب العالمين} (الصافات:87)، قال ابن عاشور : "أريد بالظن: الاعتقاد الخطأ؛ والمعنى: أن اعتقادكم في جانب رب العالمين جهل منكر". ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {إن بعض الظن إثم} (الحجرات:12)، وقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} (الأنعام:116)،  وقوله عز وجل: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} (يونس:36). وقد ذكر ابن عاشور أن "الظن كثر إطلاقه في القرآن والسنة على العلم المخطئ، أو الجهل المركب، والتخيلات الباطلة".

ثم ها هنا قولان منقولان عن السلف بخصوص معنى (الظن) في القرآن؛ أحدهما: عن الضحاك قال: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك. وثانيهما: عن مجاهد قال: كل ظن في القرآن فهو يقين. وقول الضحاك أقرب إلى ما تقرر بخصوص معنى (الظن)؛ أما قول مجاهد فهو يشكل بكثير من الآيات التي تفيد أن المقصود بالظن معناه الحقيقي، الذي هو غير اليقين، كما تبين قريبا. وقد يحمل قول مجاهد على أن (الظن) الذي يفيد اليقين، هو ما كان متعلقا بأمور الآخرة، أما ما كان متعلقا بأمور الدنيا فيفيد الشك، وقد رويت رواية ثانية عن مجاهد تدل على هذا المعنى، وفيها: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك؛ ونحو هذا قول قتادة : ما كان من ظن الآخرة فهو علم.

وقد وضع الزركشي ضابطين للتفريق بين اليقين والشك؛ أحدهما: أن (الظن) حيث وجد محمودا مثابا عليه فهو (اليقين)، وحيث وجد مذموما متوعدا عليه بالعذاب فهو (الشك). وهذا الضابط يفيد أن السياق هو المعول عليه في تحديد معنى (الظن)، وليس اللفظ نفسه.

الضابط الثاني: أن كل (ظن) يتصل به (أن) المخففة فهو (شك)، كقوله سبحانه: {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول} (الفتح:12)، وكل (ظن) يتصل به (أن) المشددة فهو (يقين)، كقوله تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه}. والمعنى في ذلك: أن (أن) المشددة للتأكيد، فدخلت في (اليقين)، و(أن) المخففة بخلافها، فدخلت في (الشك).

ومما هو جدير بالذكر هنا، أن (الظن) في القرآن الكريم، ورد في مواطن عديدة مذموما، كما في قوله تعالى: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا} (يونس:36)، وقوله سبحانه: {وأنهم ظنوا كما ظننتم} (الجن:7)، وقوله عز وجل: {وتظنون بالله الظنونا} (الأحزاب:10)، وأغلب ما جاء ذلك في سياق ما يتعلق بباب العقائد التي لا يعول فيها إلا على اليقين.

ويشار هنا إلى فائدتين تتعلقان بلفظ (الظن):

أولهما: أن (الظن) في جميع القرآن جاء بـ (الظاء)، لكن اختلف القراء في قوله تعالى: {بضنين}، فقرأها جمهورهم بـ (الضاد)، وقرأها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بـ (الظاء)، والقراءتان متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم. 

ثانيهما: أن فعل (الظن) إذا عدي بحرف (الباء) أشعر غالبا بظن صادق، كما في قوله تعالى: {وتظنون بالله الظنونا} (الأحزاب:10)، وقال سبحانه: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} (فصلت:23)، أفادها ابن عاشور.

وعلى ضوء ما تقدم من معانى الظن في القرآن الكريم، يتبين أن السياق العام للآيات هو الذي يقود إلى تحديد المعنى المراد من لفظ (الظن)، أهو اليقين؟ أم الشك؟ أم التوهم؟ أم غيرها من المعاني التي أتينا عليها. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة