- اسم الكاتب:مي عوض الله
- التصنيف:الأسرة اليوم
في غزة المحاصرة باتت الوجوه تخشى الابتسام قليلا، فتجني بعده حزنا لا يغادرها أبدا فأحداث الحزن كثيرة، تبدأ عند الحصار الخانق الذي لف تفاصيل الحياة الفلسطينية وتنتهي على أعتاب الممارسات الصهيونية المتكررة والمبتكرة في وأد طموح وأحلام الفلسطينيين جميعهم في مقبرة جماعية لا يخرجون منها أبدا. هناك طفل ما ألف بعد شظف الحياة ولا حتى نعيمها يقبع خلف غمامة سوداء يرنو إلى نسمة تحرك غمامات السماء فتساقط عليه قطرات مطر تغسل ملامح الحزن في وجهه فيبدو كزهرة الأقحوان البري يشع بريقا إذا ما تساقطت عليها قطرات الشمس الدافئة، وهناك أم حلمت يوما بزفاف ابنتها إلى عريسها ، لكنها أبدا ما حققت الحلم والأسباب يرويها شبح الحصار، وهناك أيضا شاب بترت أحلامه على أعتاب البطالة، وانعدام فرص العمل، وأب نسج من بياض الأحلام تفاصيل مستقبل أولاده، لكنها تحولت إلى بحر من دموع وألم وعجز في ظل فقره المدقع الذي جناه عليه الحصار. في ظل حالة الحصار الصهيوني الضاربة في جراح الأسرة الفلسطينية النازفة عجز رب الأسرة مادياعن توفير متطلبات الحياة الكريمة لأسرته؛ بسبب حالة الفقر والبطالة التي استشرت ملامحها في المجتمع الفلسطيني بنسبة تجاوزت الـ 80% للفقر والـ 50% للبطالة. وفقا لدراسة أعدها مؤخرا د. سمير قوته - رئيس قسم علم النفس بالجامعة الإسلامية - حول "تأثير الحصار وانعكاساته على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وعلاقتها بمدى جودة حياة الأسرة الفلسطينية في قطاع غزة"، فإن الحصار الذي تفرضه دولة الاحتلال على الفلسطينيين أدى بـ84% من الأسر الفلسطينية إلى تغيير أنماط حياتها، بينما أجبر93% من الأسر على التنازل عن الكثير من متطلبات المعيشة اليومية لهم، وأشار " قوته " ضمن نتائج دراسته إلى ارتفاع درجة التوتر واليأس، وعدم الاطمئنان للمستقبل لدى أفراد المجتمع الفلسطيني؛ مما ألقى بظله الثقيل على انخفاض جودة الحياة الأسرية بمختلف مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، لافتا إلى أن الفلسطينيين استطاعوا احتمال كافة ألوان الضغوطات التي أثمرها الحصار بفضل قدرتهم الفائقة على الصبر، وإبداعهم في إيجاد آليات للتوافق مع الواقع المرير الذي يعيشون تفاصيله، وبشيء من التفصيل يقول: "تغلبوا على انقطاع التيار الكهربائي بالعودة إلى الحياة البدائية عبر استخدام الشموع ومصابيح الكاز، وتغلبوا على انقطاع الغاز الطبيعي بإشعال النار، واستخدامها في أعمال الطهي والتدفئة"، وأكد " قوته " عبر نتائج دراسته أن الأمل النابض في قلوب الفلسطينيين هو أساس تمتعهم بصحة نفسية جيدة، وهو المحرك الأساسي لزيادة قدرتهم على المواصلة والبحث الدائم عن حلول وبدائل لما يعانونه من مشكلات من شأنها أن تمثل خطرا على حياتهم.
تفاصيل خارطة المعاناة إن كنت فقيرا، قد تسخط على الأغنياء المقتدرين، لكنك لست وحدك من تعاني الفقر؛ فالكل حولك يشكو ذات الألم، لذلك تشعر بالرضا، وتحاول بما لديك من إمكانيات سد احتياجاتك الضرورية، والتخلي عن الكماليات جميعها، وأقل الضروريات في بعض الأحيان، وتستبدلها بأخرى تؤدي ذات الغرض، لكنها في نفسك تزيدك فخرا وعزا وكبرياء وتحديا.
عيش على الكفاف الخبير الاقتصادي عمر شعبان كان له رأي في قدرة تكيف الأسرة الفلسطينية، وتدبير تفاصيل حياتها اليومية في ظل حصار اقتصادي خانق على القطاع ، يقول في حديث خاص :" تلك القدرة جاءت من تفوق الأسرة الفلسطينية في احتمال العيش على الكفاف، أي قدرتها على التوفير، بل والتقطير أحيانا في المأكل والمشرب والملبس بالكم والنوع "، مشيرا إلى أن الكثير من الأسر الفلسطينية في القطاع أجبرت بسبب الحصار على التنازل عن الكثير من احتياجاتها الأساسية مما أثمر نتائج سلبية على صحة الأسرة، ولا سيما الأطفال فيها، لافتا إلى ارتفاع نسبة فقر الدم لدى الأطفال؛ بسبب نقص الأغذية كما ونوعا إلى أقل من حد الكفاف.
انعكاسات اجتماعية صبغ الحصار الذي تعانيه الأسرة الفلسطينية على مدار الأشهر الماضية تفاصيل الحياة جميعها، ولا سيما العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، والتي باتت محكومة بمدى القدرة الاقتصادية. يؤكد دواد حلس- أستاذ علم الاجتماع، بجامعة الأقصى بغزة - إن حالة الحصار التي فرضها الاحتلال الصهيوني على القطاع انعكست على النواحي الاجتماعية بين الناس، وخلفت ضيقا نفسيا يعاني منه الأفراد خاصة الأطفال الذين يتأثرون بتعامل والديهم معهم بمزيد من الضيق والتوتر يلقي بتفاصيله على مختلف نشاطاتهم وأساليب حياتهم؛ فتجدهم غير قادرين على التركيز، شاردي الذهن، غير متفاعلين؛ الأمر الذي يؤثر على مستواهم، وتحصيلهم العلمي. تلك كانت بعضا من مشاهد ألفتها الأسرة الفلسطينية الرازحة تحت وطأة الحصار المفروض على قطاع غزة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نطرح خلال التحقيق التالي تساؤلا كبيراحول كيفية عيش الأسرة الفلسطينية تحت وطأة الحصار؟!. تتوه بنا التفاصيل بين وضع اقتصادي ونفسي واجتماعي يصبون جميعهم في بوتقة الألم والمعاناة المجبولة بروعة الصمود والأمل ..تابع معنا :
"وطأة الحصار قاسية أليمة تزداد قسوتها؛ إن ضمت جدران بيتك مريض لا حول له ولا قوة، فالكهرباء يمكن الاستعاضة عنها بشموع ومصابيح جاز، وكذلك الماء يمكن توفيره بأي من الطرق، ولا سيما الطعام فتقوى على الحياة قليلا، لكن الدواء إن نفذ تكون المأساة الحقيقية للأسرة؛ خاصة إذا كان لا يمكن الاستعاضة عنه بأي نوع آخر كيميائي أو طبيعي باستخدام أعشاب معينة" هكذا تحدثت لنا أم إبراهيم - في الأربعينيات من عمرها - عن حياتها في غزة، وأضافت، وهي تحاول تهدئة ابنها المعاق ليكف عن صراخه وعويله:" كما ترين هذه إحدى تبعات الحصار على غزة أعانيها وابني المعاق هذا"، وبشيء من التفصيل أردفت قائلة:" منذ ثلاثة أسابيع، وأنا أغدو للهيئة التي توفر له العلاج النفسي لأحصل على بعض الأدوية والمهدئات التي يتناولها بشكل يومي، لكن دون جدوى، فالمخزون لديهم قد نفد، وترفض سلطات الاحتلال إدخال الأدوية والمساعدات الطبية"، وتتابع : "لا أملك له إلا أن أعامله بقليل من الهدوء عل ذلك يزيل خوفه، ويقلل من حدة توتره و الحمد لله".
بينما كانت تتحدث إلينا الأم حتى جاءها طفلها الأصغر يطلب قطعة خبز أو بعضا من الطعام، فقد عاد لتوه من المدرسة، قال: "ماما أنا جوعان كثيرا، يالله بدي آكل عشان أدرس قبل ما تقطع الكهربا اليوم دورنا ولا نسيتي" نظرت إليه، وأبرقت في عينيها دمعة لم يكن لديها إلا القليل مما يطلب، قطعة جبن وبعض أصابع البطاطس، مع فتات خبز هو كل ما لديها في المنزل، قدمتها له، وراحت تبرر له غدا، إن شاء الله، سأستلم كابونة الوكالة، وسأطهو لك ولإخوتك خبزا شهيا طازجا، إضافة إلى طعام الفاصوليا التي تحبها، لكن باسم الذي لم يبرح أعوامه الثمانية لم يتذمر، ابتسم في وجه أمه، والتفت إلى الطعام على عجل، أكل حاجته أو أقل، وأسرع إلى غرفة فصلها عن ساحة البيت حائط من قماش أخضر لم يكد يشرع في فتح حقيبته المدرسية حتى توارى التيار الكهربي، وغرق البيت في ظلام حالك، علامات حزن تداعت إلى وجهه، وأقبل يبحث عن شموع أضاء منها خمسة على هيئة قلب أنارت ملامح البراءة في عينيه، وغرق في كتبه وكراساته، رافضا اقتراح والدته بالخلود للنوم والراحة واستذكار دروسه في صباح الغد؛ حيث تضيء الشمس تفاصيل البيت المسقوف بالزينكو، ليس تعويدا منها له على الكسل، بل خوفا وخشية على صحة عيونه، فهو يعاني من التهاب حاد بها، والقطرة التي يستعملها قد نفذت، ولا تملك حاليا نقودا لشراء أخرى، كما تقول.
من ناحية أخرى، أشار شعبان إلى تقلص دور المؤسسات الإنسانية، وعدم قدرتها على تعزيز الصمود لدى الأسر الفلسطينية التي باتت تعاني الفقر والبطالة بنسب مخيفة لم تكن مسبوقة قائلا :" إن تلك المؤسسات أيضا تعاني من مشكلات جمة إحداها تتمثل في انخفاض الدعم الدولي لها؛ بسبب الحصار المفروض على غزة، وثانيها نقص المواد الخام لدى تلك المؤسسات والذي أثمر تقليص قدرتها على المساعدة عبر برامج التشغيل، وإيجاد فرص عمل للعاطلين التي كانت تتميز بها قبل الحصار"، ناهيك عن المشكلة العظمى بإغلاق المعابر والحدود الفلسطينية مع العالم الخارجي، والتي أثمرت صعوبة تحرك تلك المؤسسات، كما انتقد شعبان مطالبة العالم والمجتمع الدولي الأسرة الفلسطينية بالصمود في الوقت الذي لا يستطيع هو أن يوفر لها إمكانيات الصمود من إمدادات إغاثية ومشاريع تنموية، لافتا إلى أن قضية الصمود لدى الأسرة الفلسطينية مطاطية ونسبية، وليس تسير على وتيرة واحدة، مشيرا إلى أن مخاطر ذلك الصمود وتبعاته، ستبدو واضحة على المدى القصير والمتوسط والطويل، خلال الفترات الزمنية القادمة.
وأوضح أن التخلص من تبعات الحصار على الأسرة الفلسطينية، إنما تكون أولا وأخيرا بالتوكل على الله، وزيادة القدرة على الصبر والتحمل، فالحياة لا تسير على وتيرة واحدة من الألم والأذى، وإنما هناك محطات استراحة تغمر تفاصيل حياتهم بالسعادة والأمل، لافتا إلى أن الصبر نصف العبادة، وأنه جزء من الإيمان، مؤكدا دور المرأة الفلسطينية في تربية أبنائها على الصبر؛ ليشبوا قادرين على التأقلم مع معطيات واقعهم الأليم.
خدمة مركز الإعلام العربي