
تخيل أنَّ حياتك الشَّخصية، أسرارك، وحتى أحلامك، قد تصبح أداة للسَّيطرة عليك، لحظة واحدة قد تقلبُ حياتك رأسًا على عقب، رسالة مجهولة، صورة محرِجة، أو تهديد مبهم، فجأة، تجد نفسكَ عالقًا في دوَّامة الابتزاز، بلا مخرجٍ واضح، هذا هو الواقع الذي يعيشه الكثيرون تحت تهديد الابتزاز. كيف يبدأ؟ ولماذا يسقطُ الكثيرون ضحيته؟.
يعيشُ الإنسان طيلة حياته يحرسُ أستارَ نفسه من أيِّ هتك، يُربي سيْرته وسمْعته كما يربي أحدكم وليده، يحافظُ علىٰ اسمه كما يحافظُ تاجرٌ شحيحٌ علىٰ رأسِ ماله، وكل هذا يُفْهَمُ في سياقِ حرصِ الإنسان علىٰ العيشِ في ظِلالِ السِّتر، نائيًا عن الفضيحةِ وما يقرِّبُ إليها، والسُّقوطِ من أنظارِ الخلق!.
قد يتعثَّر الإنسان في لحظةٍ حَرِجَة، يسقطُ في شراكِ ضَعْفِه، فيُقْدِم علىٰ فعلٍ يجرُّ عليه ويلات لا حصرَ لها، في هذه اللحظات، يقفُ إنسانٌ آخر، كائنٌ مثْقَلٌ بالنَّذالة، مفرغ من أيِّ ضمير، لا همَّ له إلا الابتزاز: ابتزاز طفلٍ لم يبلغ الحُلُم، ابتزاز شابٍّ في مطلع العمر وقَعَ فريسة الاستعجال، ابتزاز فتاةٍ في خِدْرِها، اصطادها لحظة أطَلَّتْ برأسها من نافذةِ الحياة!.
يحتمي المبتزُّ بثقافةِ العقْلِ الجمْعيِّ لدىٰ المجتمع في نظرته للخطأِ عندَ ذيوعه، يثقُ «المبتز» أنَّ الإنسان الذي يُمارَسُ عليه الابتزاز يفضِّلُ الانصياع، والسَّيْر في حبائلِه علىٰ أن يُفتَضَحَ أمره بينَ الخلقِ ومحبيه، يثقُ أنَّ القوة بيديه وأنَّ موت الضحية وحياتها يعودان إليه، بعد أن قبضَ على شيءٍ يُدينه، ولو كانَت صورة عابرة لفتاةٍ تخشىٰ انتشارها، ووقوع الفجيعة!.
وقد أشار الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (ت:1984) في كتابه "المراقبة والعقاب"، إلى المجتمع الذي يمارسُ دور السَّجَّان الخفي، إذ يرقبُ تصرفات الأفراد، ويجعلهم دومًا تحتَ وطأة الشُّعور بالخوفِ من الفضيحة والعقاب، هذا الخوف هو ما يُطوِّعُ الضَّحية ويمنح المبتز سلطته؛ لأنه يعلم أنَّ الإنسان سيفعلُ المستحيل لتجنب سقوط "ستار" حياته أمام الآخرين.
تأملوا قصص الضَّحايا الذينَ تعرَّضوا للابتزاز، لم يكن انسياقهم إلىٰ الهُوَّةِ بمحضِ رغبتهم، أُرغموا علىٰ المضيِّ في حبائلِ الأخطاء، ظنًّا منهم أنهم يلوذونَ بسترٍ شفيفٍ يقيهم الفضيحة، فلا غطاء السِّتر دام، ولا الفضيحة حُبِسَت عن الخروج، ولن يُصدَّقوا أنَّ ما قاموا به كانَ تحتَ وطأة مبتزٍّ قذر، أتقنَ اللعبَ بمهارة؛ اتكاءً علىٰ نظرة المجتمع المساندة، المجتمع الذي يدينُ المخطئ في كلِّ حالاته، ويغتاله معنويًّا، ويكون سببًا في هروبه إلىٰ أحضان الجحيم، أعني المبتز!.
يتردَّدُ عليكَ في روايةٍ كلاسيكية، تحكي وقائع عاهرة في منتصفِ العمر، تنظر من شاهقٍ إلىٰ حياتها بينَ أوكار الأفاعي، ثمَّ تعيدها الذكرىٰ إلىٰ لحظةِ "الابتزاز الأولى" التي صنعت منها ما صَنَعت، وقل مثلَ ذلك في كلِّ ضحايا الابتزاز الذين صُنعوا علىٰ عينِ المبتز بطريقةٍ لم يحلموا بها، ودونَ رغبةٍ منهم!.
التقنية: وجه الابتزاز الجديد
في عصر التكنولوجيا، أصبحَ الابتزاز الإلكتروني أحد أكثر التَّهديدات النَّفسية والاجتماعية شيوعًا، حيثُ يتسَبَّب في اضطراباتٍ نفسية حادة للضَّحايا، غالبًا ما تؤدي إلى انهياراتٍ عاطفية وسلوكية خطيرة، فلا يحتاجُ المبتز اليوم إلى مقابلة ضحيته وجهًا لوجه، كل ما يحتاجه هو نافذة إلكترونية، صورة واحدة، أو رسالة عابرة، وهنا يظهر الجانب المظلِم للتكنولوجيا، الذي يدفعنا إلى التَّساؤل: كيف نحمي أنفسنا وأبناءنا من الوقوعِ في هذا الفخ؟.
وقد ألمحَت بعض البرامج إلىٰ الابتزاز الحديث، الابتزاز الإلكتروني ومآلاته المدمِّرة، تحتَ شعار: «اصمت، ونفِّذ الأمر»، بلا سابقِ إنذار يتحول إنسان من وضع طبيعي حر إلىٰ حالة مغايرة تمامًا، نمط من أنماطِ العبودية، تقضي على كل معنى في حياته وتركز بؤرة النَّظر في سؤالٍ واحد: «كيف أحافظُ على سمعتي من الفضيحة، وحياتي من الدَّمار؟» ثمَّ يمضي معهم متماهيًا في طرقِ الابتزاز اللعينة التي توصله إلى الضَّياع الأبدي!
لماذا ينجح المبتز؟
لعلَّ مُطاوعة الضَّحية للمبتز والانصياع له، يضخِّمُ من هذه الظَّاهرة، الخوف من الفضيحة الصَّغيرة يدفعه لاجتراحِ ما هو أعظم، حفظًا لبياضِ صفحته، وينسىٰ تحتَ وطأة الابتزاز السَّواد الكثيف الذي يلطخُ به صفحة حياته حين يخافُ عليها من تعرُّجاتِ ورتوش طفيفة، لا يفتأ الزَّمان يمحوها لكنها الرَّهبة التي يشعر بها الإنسان حين يبغته صوتُ مبتزٍّ محفوفٌ بالعَدَم، ثمَّ التفاته المفاجئ إلىٰ من وثقوا به، وأودعوه حبهم، ورؤية نفسه أمامهم بحالٍ مخزية، فيقررُ أن يمشي في طريقِ الفناء.
تفهُّمُ تقلباتِ الإنسان، وضعْفه، وإمكان وقوعه في الخطأ؛ يشعره بقدرٍ من الأمان ويُهوِّن عليه مخاوفه من مواجهة المجتمع بالفضيحة، نحنُ نجني على النَّاس عندما نختصرهم في خطأٍ وقعوا فيه، ثمَّ نغلق عليهم الأبواب، ولا ندري أننا ندفعهم دفعًا إلىٰ العيش في العَرَاء، ونحولهم من ضحايا صغار إلىٰ أرقام مرعبة تعيشُ في حاضنةِ الابتزاز، تمارسُ دور "الضَّحية والمجرم" في آن، نفعل كل ذلك ثمَّ نبكيهم عندما يقرِّرُ أحدهم أن ينهي عذاباته بطريقته الخاصة، في تلكَ اللحظات نتهامسُ بيننا «ليتنا قبلناه بكله»، لكن، بعد انتهاءِ الحكاية!
إذا أردنا محاربة الابتزاز، فلا بد أن نعيد النَّظر في الطريقة التي نتعاملُ بها مع الأخطاء والضَّعف البشري، ينبغي أن نوفر بيئة تتيحُ للضَّحية الاعتراف بما وقع فيه دونَ خوف، وأن نعزِّز من ثقافة التَّوبة والإصلاح بدلًا من العقابِ والتَّشهير.
الختام:
الابتزاز ليس مجرد جريمة تُرتَكَب في الظَّلام، بل هو جرحٌ عميقُ يصيبُ ضحاياه في أعماقِ نفوسهم، لهذا، لا يجبُ أن يُترك هؤلاء الضَّحايا وحدهم في مواجهةِ الخوف والعُزْلة، لنكن نحنُ الضَّوء في ظلامهم، اليد التي تمسحُ دموع الخوف وتعيد لهم الأمان، ومن أمعن النظر في سيرة النبي الأكرم، أدركَ الرأفة والرحمة وغطاء الستر الذي كان يهبه للمخطئ. حينما نقفُ مع الضَّحية، نعيد لهم جزءًا من كرامتهم المستلبة، ونوجه رسالة قوية لكلِّ مبتز: لن نسكت بعد الآن، لن نسمح بأن ينهار أحدنا تحت وطأةِ الخوف والانهيار.