حسن الكرمي: رحلة عطاء

0 812

في هذا الشهر من العام الماضي فارق الدنيا  الكاتب الكبير والمعجمي الشهير الفلسطيني حسن الكرمي (1905 - 2007) الذي كان يرى أن تحول العرب إلى نقلة عن الحضارة الغربية يجعل ترجمتهم للمصطلحات والتعابير الجديدة، التي لا مقابل لها في العربية، غائمة بعيدة من المعنى الذي تدل عليه تلك التعابير. ومن ثم فإن على من يؤلفون القواميس ويسعون إلى ترجمة المصطلحات أن يحفروا عميقا في ذاكرة اللغة العربية لتوليد مقابلات دقيقة لا تختلط بغيرها من المعاني العمومية الشائعة في اللغة.

رؤية حسن الكرمي العصرية لدور المعجم أو القاموس هي ما يميز"المنار" و "المغني الكبير" و "المغني الأكبر"، والمعاجم الأخرى التي أنجزها الكرمي؛ فالرجل أراد أن يفتح اللغة العربية على الحضارة الحديثة وأن يبرهن أن  اللغة العربية قابلة للتطور شأنها شأن اللغات الحديثة القادرة على استيعاب منجزات العصر واختراعاته وأفكاره المستحدثة.

ولد حسن الكرمي في صيف 1905م  لأب من رجال فلسطين الذين برزوا في ميدان الفقه والأدب واللغة، هو الشيخ سعيد الكرمي (1852 – 1935.

 تلقى الكرمي تعليمه الابتدائي في طولكرم، ثم انتقل إلى دمشق ليكمل تعليمه الثانوي فيها، حيث التحق بعدها بالكلية الإنكليزية في القدس عام 1925.
 وقد عمل الكرمي مدرسا للغة الإنكليزية والرياضيات في مدينة الرملة وبدأ عام 1934 يدرس في الكلية العربية في القدس التي تخرج فيها معظم كتاب فلسطين ومثقفيها في تلك السنوات.

تخصص الكرمي في أصول التربية والتعليم وعلم الإحصاء التربوي خلال العامين (1937 – 1938) متخرجا في جامعة لندن.
 وعند عودته إلى القدس انتقل إلى إدارة معارف فلسطين برتبة مساعد مفتش، وبعد سقوط فلسطين هاجر الكرمي إلى بريطانيا ملتحقا بالقسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية مراقبا للغة فيها، وفي تلك الأثناء أعد سلسلة "تعليم الإنكليزية في الراديو" كما أعد برنامجه ذائع الصيت  "قول على قول" ،  وفي عام 1983 منح لقب عضو شرف في مجمع اللغة العربية الأردني.

ألف حسن الكرمي معجم "المنار" إنكليزي - عربي (1970)، ثم أتبعه بسلسلة معاجم المغني ثنائية اللغة (إنكليزي - عربي)، وهي: "المغني"، و"المغني الكبير"، و"المغني الأكبر"، و"مغني زائد"، و"الوسيط"، و"الوجيز".
 وقد كانت هذه المعاجم، التي يسند بعضها بعضا، ويلبي كل واحد منها حاجة فئة معينة من المستعملين، نتاج عمل شخصي فردي للكرمي الذي نذر حياته لفتح آفاق اللغة العربية على الإنكليزية، وتوسيع الثروة اللغوية للعرب من خلال وضع المعاجم بخاصة والترجمة بعامة.

من الواضح أن العمل المعجمي يتطلب طرازا فريدا من البشر، إذ عليهم أن يتمتعوا بالملاحظة الدقيقة والدأب الدائم، والقدرة على تنظيم معرفتهم اللغوية بطريقة تمكنهم من النظر إلى دخول كلمات وتعبيرات جديدة إلى اللغة، وضرورة إيجاد معادلات لغوية دقيقة لتلك الكلمات.

انطلاقا من هذا التصور الخاص بالعمل المعجمي، فإن حسن الكرمي يرى أن صناعة المعجم  أكثر صعوبة ودقة من علم الرياضيات، لأن دقائق تلك الصناعة ورهافتها، ووجود ظلال كثيرة للمعنى الذي نعطيه لأي كلمة عندما نترجمها إلى لغة أخرى، تتطلب عقلا صافيا مدربا على البحث، كما تتطلب معرفة بروح اللغة التي يترجم عنها المرء أو يترجم إليها.

 ويشرح الكرمي طريقته في العمل المعجمي قائلا : "إن أول شيء يقوم في ذهن واضع المعجم هو قصده من وضع معجمه، وهل هو معجم ابتدائي أو متوسط أو جامعي، وهل هو لعلم من العلوم كالطب أو الكيمياء، أو هل هو جامع يشتمل على عدد أكبر من الكلمات، وهل هو لتفسير معاني الكلمات بالأمثلة والشواهد أم لتعليم لغة أجنبية من طريق الاستعمال".

يطرح الكرمي هذه المقاصد على المعاجم التي عمل عليها فيرى أن معجم "المنار" وهو إنكليزي - عربي (1970) قصد منه أن يكون معجما إبتدائيا، فلم يكن عدد كلماته كبيرا، وكانت المعاني محصورة في المعاني الأكثر شيوعا، ولم يكن الاهتمام كبيرا بالمصطلحات العلمية، ولا بالاستعمالات المجازية إلا ما كان منها ضروريا. وأما "المغني الأكبر" مثلا فتجده معجما موسوعيا يمتاز باشتماله على وفرة من المصطلحات العلمية والأدبية والفنية...

يتسم أسلوب الكرمي في معاجمه بالتدرج في شرح المعاني، فهو في "المغني الكبير" يشرح الكلمة الإنكليزية في أول الباب، ثم تأتي المعاني الإصطلاحية والمجازية في جمل إنكليزية ملحقة مترجمة ترجمة دقيقة.

 ويهدف واضع المعجم إلى إعطاء المعاني الصحيحة للكلمات الإنكليزية، التي تعد ستين ألفا في "المغني الكبير"، كما يهدف إلى تعليم الإنكليزية من طريق استعمالها في جمل مختارة، ومن ضمن ذلك استعمالات الأفعال مع أحرف الجر والظروف. ويرى الكرمي أنه، بطريقته في شرح الكلمات الإنكليزية، يعلم اللغة العربية بطريق غير مباشر موفرا معرفة غير مباشرة باللغتين العربية والإنكليزية اللتين يرى أنهما تختلفان عن بعضهما بعضا بغلبة الفعل في العربية، وغلبة الاسم بالإنكليزية.

تقوم نظرية الكرمي اللغوية على ممارسته المعجمية، ومعظم الملاحظات الخاصة باللغة، وطبيعة اللغتين الإنكليزية والعربية، تنبع من عمله المعجمي الذي امتد على مدار نصف قرن، فهو في كتابه "اللغة: نشأتها وتطورها في الفكر والاستعمال" (2002)، الذي يمثل خلاصة تفكيره باللغة ونظرته إلى كيفية نموها وتطورها، يرى أن الأصل في اللغة هو الاستعمال، وهي ملاحظة جديرة بأن تصدر عن معجمي يهمه من اللغة تداولها بين الناس. كما أنه يفتتح كتابه بالقول: "إن اللغة في الأصل أصوات استعملها الإنسان في عهد الفطرة ليعبر بها عن حاجاته وإحساساته. وهذه الحاجات والإحساسات تكاد تكون واحدة أو متشابهة عند الإنسان  في كل مكان، فهو يبرد ويجوع ويعطش ويتعب ويفرح ويغضب ويتألم كغيره من البشر".

قول على قول

على مدار ثلاثين سنة أوأكثر ظل حسن الكرمي يبث من القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية برنامجه "قول على قول"، الذي كان يبدأه بعبارته: "وسألني سائل من القائل وما المناسبة؟". وقد ظل البرنامج يذاع حتى عام 1989، أي حتى عودة حسن الكرمي إلى عمان، وانقطاعه عن العمل في الإذاعة البريطانية، وتفرغه للكتابة وتأليف معاجمه. وقد استقطب البرنامج ملايين المستمعين، وتلقى معد البرنامج آلاف الأسئلة. وقد ساعدت الكرمي معرفته الواسعة بالتراث وحفظه آلاف الأبيات من الشعر العربي لكي يستطيع الإجابة عن أسئلة المستمعين. وعلى رغم توقف البرنامج، فإن برنامجا ثقافيا آخر لم يلق الشهرة التي لقيها، كما أن فصاحة اللسان التي كان يتمتع بها حسن الكرمي والقدرة الفذة على الإلقاء قد دفعتا المستمعين العرب في كل مكان كي يتابعوا برنامجه الذي كان يمثل ثروة لغوية وشعرية تضاهي ما كتبه الموسوعيون العرب في التراث من أمثال أبي الفرج الأصفهاني في كتابه "الأغاني" وابن عبد ربه في "العقد الفريد"، وغيرهما ممن أنفقوا أعمارهم في شرح أشعار العرب وأقوالهم وحفظها للأجيال.

ومع أن الكرمي سبق أن قدم برامج أخرى في القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، مثل "نقل الأديب"، و "لكل سؤال جواب"، و "تعليم اللغة الإنكليزية بالراديو"، إلا أن "قول على قول" ظل علامة بارزة في  مسيرة الكرمي الثقافية، وإنجازه الكبير في حقل آخر غير حقل تأليف المعاجم.

لهذا السبب تحول هذا البرنامج إلى موسوعة في التراث بلغ ما هو منشور منها حتى الآن اثنا عشر جزءا، وهناك الجزء ثالث عشر لم ينشر حتى هذه اللحظة.

 وقد ترك المؤلف الأسئلة والأجوبة من دون تغيير، مع بعض الإضافات القليلة، وذكر مع كل سؤال اسم السائل، كما يقول، في مقدمة تلك الكتب، إثباتا لصحة السؤال .
 ويعلق في المقدمة أيضا قائلا : "إنه لم يقصد بأجوبته في ذلك البرنامج أن تكون دراسة أدبية ولغوية مستقصاة ، وإنما أراد أن تكون تلك الأجوبة للإمتاع والتسلية والتعريف بشيء من ذخائر الأدب العربي وطرائفه".

لكننا إن راجعنا أجزاء "قول على قول" الإثني عشر سندهش للمعرفة الواسعة، والدقة في إيراد الحجج المختلفة للرواة وجامعي ذخائر العرب. إنه يذكر اسم قائل البيت ثم يشرح البيت، ويورد مناسبته؛ وإذا كانت هناك رواية أخرى أو شك باسم القائل، وذكر لغيره، فإنه يذكر الرواية الأخرى، ويشرح البيت بحسب مناسبته، ويفند حجج الرواة، ثم يخلص في النهاية إلى الرأي الأصوب إذا كان ذلك ممكنا.

لقد ظل العرب يتابعون برنامج "قول على  قول" بشغف ونهم كبير طوال سني بث البرنامج وكان من أمتع ما قدم عبر هيئة الإذاعة البريطانية، رحم الله حسن الكرمي ، و تقبله في الصالحين.
________
الحياة اللندنية بـ"تصرف"

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة