أزمة العلمانية المزمنة!!

0 952

الخطاب العلماني يعاني من أزمة في علاقته بالدين, ولست أقصد موقفه هو, فهذا أمر محسوم منذ زمن, ولكني أعني كيفية إيصال هذه العلاقة إلى جماهير الناس.. فالازدواجية طافحة لمن لديه أدنى اطلاع على أدبيات القوم وآرائهم, فهم من جانب يحاولون إقصاء الدين من حياة الناس, وإن وجد ففي شكل شعائر فردية في زوايا منسية.. أما أن يهيمن الدين - والكلام هنا على الإسلام خاصة - على مناحي الحياة المختلفة فهذا ما يحاول العلمانيون القضاء عليه بكل ما أوتوا من قوة.

فكلمة العلمانية أصبحت تدل في علم الاجتماع السياسي على: "معنى شامل يخص بنية الثقافة ونظام القيم عامة من ناحية اتجاهها إلى فك الارتباط بالمرجعية الدينية ونزع القداسة عن العالم مع الاحتكام أكثر فأكثر إلى سلطة العلم والعقل سواء في تحديد القيم أو في تفسير الظواهر أو في توجيه السلوك الفردي والجماعي على حساب الدين وقيمه في الثقافة الإسلامية".
والمنهج الحداثي لم يحاول التوقف عند حدود الفصل بين الدين والدولة, بل تعداه إلى الطعن في الإسلام ذاته ومحاولة القضاء على قداسته في قلوب الملايين من المسلمين بتحويله إلى منتج ثقافي تتناوله أيدي النقد وقتما شاءت, وكيفما شاءت,
ونحن هنا نريد شرح ثلاثة مصطلحات يستخدمها الحداثيون كثيرا ويريدون من ورائها معان لا تتفق مع الإسلام وهي: أرخنة النص, وعقلنة النص, وأنسنة النص, فما معنى هذه المصطلحات؟!!.

المقصود بالنص هنا هو النص الشرعي (القرآن - السنة), أما هذه المصطلحات الغامضة, والغموض هنا مقصود حتى ينبهر الناس, وكنوع - أيضا - من الاستعلاء!! فمعناها كالآتي: فالأرخنة المقصود بها: إخضاع النصوص الشرعية للظروف التاريخية التي نزلت فيها - أي أنها تكون خاصة بالعصر الذي نزلت فيه وهو هنا عصر النبوة - وليس لهذه النصوص دخل بالعصور التالية فالآيات والأحاديث إنما قيلت في وقائع خاصة فتختص بها ولا تتعداها.. وهذا الكلام يؤدي إلى هدم الإسلام وتحويله إلى آثار تاريخية كتلك الآثار التي نراها في المتاحف تحدثنا عن عصور مضت وانتهت!! فهل بعد هذا الهدم هدم؟!

أما المقصود بعقلنة النص: فهو إخضاع النصوص الشرعية للعقل البشري فما وافق العقل أخذنا به, وما خالفه أولناه بما يتناسب مع العقل, وهذه الدعوى بدورها دعوى مرفوضة إذ يصبح العقل حاكما على النصوص الشرعية, ثم تتفرع قضية أخرى وهي أن العقل سيحكم على النص الشرعي..؟!! عقل هذا أم عقل ذاك, فالعقول تتفاوت والأفهام تتباين, ومن لديه أدنى اطلاع على الشرع ونصوصه يعلم أنه لا تعارض بين العقل والنقل, فكل ما جاءت به الشريعة الغراء إنما جاء موافقا لما تدل عليه العقول السليمة والأفهام السوية.
أما المقصود بأنسنة النص: فهو إرجاع النصوص الشرعية إلى الإنسان واعتبارها عملا إنسانيا كأي عمل إنساني ومن ثم يخضع للنقد والتعديل ومناقشته كما نناقش أي عمل أدبي!!,
يقول شكري عياد: "الحداثة تستهدف أنسنة الدين, أي إرجاع الدين إلى الإنسان, وإحلال الأساطير محل الدين, وإرجاع المقدسات و الغيبيات إلى جسم الإنسان ".

إذن المقصود من كل هذا أن يصبح الإسلام حرما مستباحا لكل ناعق, فلا ثوابت تبقى, ولا عقائد تدوم ومن ثم يتفكك الإسلام وتتمزق أواصره وروابطه.
ما أريد قوله أن الخطاب العلماني خطاب متصادم مع الإسلام وثوابته وأنه خطاب معاد له على طول الخط, ولكنه يتعامل بازدواجية فمن جهة أخرى تحاول بعض الأصوات العلمانية التخفيف من حدة تلك السياقات الفجة الصادمة للشعور العام فتقول:"ولم يكن تطور العلمانية في كل تلك الحقب والمراحل معاديا للأديان على الإطلاق فوفقا للنظام العلماني فإن العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية لأصحاب أي ديانة هي من صميم الحقوق والحريات المدنية للأفراد التي يجب أن تصونها وتحميها الدولة التي يفترض أن تظل محايدة لا تمارس تمييزا مع أو ضد أي عقيدة دينية, وهو البند المتضمن في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. فقط تحول التدابير العلمانية دون تحويل الدين إلى سلطة أو السياسة إلى استبداد وقهر".

والتناقض الصارخ لموقف العلمانية من الإسلام تجده في علاقتهم بكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لمؤلفه/علي عبد الرازق، فبالرغم من هجوم العلمانية الحاد على الإسلام.
إلا أنها لا تجد غضاضة من الالتجاء إلى هذا الكتاب - وهو أحد الأساطير الداعمة لفكرتهم- والاتكاء عليه في إثبات أنه لا يوجد في الإسلام حكومة ولا نظام حكم رغم أن كاتبه أزهري وصيغ بأسلوب شرعي !
وصدق الله العظيم إذ يقول: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين* وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون* وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين* أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون), [النور:47:50[.

وهذا التناقض العلماني الواضح, أثار حفيظة بعض العلمانيين وقد ساءه أن يكون الاعتماد - عند الاستشهاد على فصل الدين عن الدولة - على نص ديني آخر, فيقول عادل ضاهر: "إنه ومع افتراض وجود علاقة في الإسلام بين الدين والدولة فإثبات ذلك يعود لاعتبارات منطقية مفهومية فتلك فقط هي التي يمكن أن تبين ما إذا كان بالإمكان الربط على نحو ضروري بين الإسلام والدولة, فإذا كان ثمة شيء في طبيعة الدين أو في طبيعة القيم أو في طبيعة الألوهية يتنافى أو لا يتنافى مع الاعتقاد بوجود رباط عضوي ضروري بين الإسلام والسياسة فإن هذا يمكن اكتشافه عن طريق تحليل الطبيعة المنطقية للدين, وليس عن طريق اللجوء إلى نص ديني آخر".

ومن العجيب - حقا - أنه في الوقت الذي يحاول فيه العلمانيون في بلادنا هدم الإسلام واتخاذ الوسائل كافة التي من شأنها محاصرته وتقويضه, يشهد الغرب صحوة دينية متزايدة، وعودة مرة أخرى إلى الكنيسة, وتزايد تدخلها في الشأن السياسي والاجتماعي, بل واستلهام التراث المسيحي من قبل الساسة في مخاطبة الجماهير يقول أ.د./مصطفى حلمي: "فقد استطاعت الحركة الأصولية البروتستانتية أن تلعب دورا مؤثرا في الحياة السياسية الأمريكية واستعادة المفاهيم والتصورات التي طرحتها الأصولية في بدايات القرن وصبغها بأبعاد سياسية, واستخدامها في الواقع السياسي الأمريكي, بل وامتدادها لتشمل السياسة الخارجية الأمريكية, وكان المرشحون الثلاثة إبان انتخابات الرئاسة عام 1980 أندرسون وكارتر وريجان كانوا يعلنون جميعا انتماءهم إلى الإنجيلية".

وتقول كارين آرمسترونج - أستاذة الأديان المقارنة بجامعة أكسفورد - : "إن الدين أصبح قوة يعمل لها حساب, وانتشرت صحوة دينية لم تكن تدور بخلد الكثيرين في الخمسينيات والستينيات, إذ كان العلمانيون يفترضون أن الدين خرافة تجاوزها الإنسان المتحضر العقلاني, وأنه على أحسن الفروض مجرد نشاط فردي عاجز عن التأثير في الأحداث العالمية....",
لقد جرجرت العلمانية الشعوب الإسلامية إلى متاهة حقيقية فكانت سرابا يحسبه الظمآن ماء, حتى إذا جاءه لم يجده شيئا, فكانوا كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة