- اسم الكاتب:الأستاذ الدكتور / جعفر شيخ إدريس
- التصنيف:ثقافة و فكر
إذا حسبنا الزمان بمقدار حركة معينة - كحركة عقارب الساعة مثلا - فإنه حقيقة موضوعية لا تتغير. لكن الذي يتغير هو مقدار هذه الحقيقة الزمانية بالنسبة لغيرها من الأزمان؛ فخمس دقائق شيء كثير بالنسبة لبضع ثوان، وقليل جدا بالنسبة لساعة كاملة. وكما يتغير مقدار كل زمان بالنسبة لزمان آخر فكذلك يتغير إدراك الناس له أو شعورهم به بحسب الحال التي هم فيها؛ فالذي ينام ثم يستيقظ يكون تقديره للمدة التي نامها أقل بكثير من الزمن الحقيقي الموضوعي الذي قضاه في نومه. فهؤلاء أصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا، لكنهم عندما تساءلوا بعد أن استيقظوا: كم لبثتم؟ قال قائل منهم: لبثنا يوما أو بعض يوم.
وكذلك الحال بالنسبة للذي يموت ثم يحيا. قال - تعالى -: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام} [البقرة: ٩٥٢].
لكن الفارق الأكبر في التقدير النسبي للزمان هو زمان الدنيا المحدود الذي لا يكاد يساوي شيئا بالنسبة لزمن الآخرة الأبدي غير المحدود. هذه حقيقة يدركها الناس في الآخرة ولا سيما الذين يتعرضون لعذابها. إنهم جميعا يرون أن المدة التي لبثوها في الدنيا كانت قليلة وإن اختلفت تقديراتهم لمدى قلتها. وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة لهذه التقديرات؛ فمنهم من يقول: إن لبثنا في الدنيا إنما كان عشرة أيام، ومنهم من يقول: إنه كان يوما واحدا.
{يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما} [طه: 102 - 104].
قالوا في التفسير: أمثلهم طريقة أي: أوفرهم عقلا.
ومنهم من يراه يوما أو بعض يوم {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين } [المؤمنون: 112 - 113].
ومنهم من يعتقد اعتقادا جازما بأن لبثهم في الدنيا لم يتجاوز الساعة {ويوم تقوم الساعة يقسم الـمجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} [الروم: ٥٥].
وقال - سبحانه - واصفا شعورهم بالنسبة للمدة التي قضوها في الدنيا حين يرون عذاب الآخرة: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات: ٦٤].
وقال: { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} [الأحقاف: ٥٣].
وإذا كانت المدة التي يقضيها الناس في هذه الحياة لا تكاد تساوي شيئا بالنسبة للآخرة؛ فإن ما يتنعمون به فيها هو أيضا لا يكاد يساوي شيئا بالنسبة لنعيم الآخرة، وما يقاسونه فيها من تعب ونصب لا يكاد يساوي شيئا بالنسبة لتعب الآخرة ونصبها.
قال - سبحانه وتعالى - عن الكفار المغرورين بمتاع الحياة الدنيا: {أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} [الشعراء: 205 - 207].
يعني: أفرأيت إن متعناهم عدة سنين من سني الدنيا المحدودة فإنه لن يغني عنهم شيئا في تجنب العذاب الأبدي الذي سيصادفهم في الآخرة. ولذلك فإن الإنسان العاقل لا يغتر بهذه المتعة الفانية، لكنه يستمتع بها استمتاعا لا تضاد بينه وبين متعة الآخرة الأبدية كما قال قوم قارون ناصحين له: {لاتفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}.
[القصص: 76 - ٧٧]
وجاء في صحيح مسلم أنه: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ صبغة في النار، ثم يقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي بؤس ولا رأيت شدة.
والإنسان العاقل لا يضحي بالحسن الكثير الآجل من أجل القليل العاجل، ولا يفضل المتاع القليل العاجل الذي يسبب له التعب العظيم الآجل، لكن هذا هو عين ما يفعله كثيرون ممن لا عقل لهم.
وكما تختلف مقادير الأزمان بالنسبة لبعضها فإنها تختلف أيضا بالنسبة لما يحدث فيها من أحداث كثرة وقلة. فهذا الذي عنده علم من الكتاب أتى بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام في أقل من ارتداد الطرف من غير أن يتغير فيه شيء.
وأعظم من هذا إسراء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس ثم عروجه إلى السماوات، وما رأى في كل ذلك من مشاهد وما حدث له من أحداث، وقع كل ذلك في زمن قصير؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - عاد من تلك الرحلة (التي ربما كانت أطول رحلة يقوم بها بشر) في الليلة نفسها التي أسري به فيها.
هذا مع أن المختصين يقولون: إن الضوء المنبعث من بعض النجوم البعيدة يستغرق ملايين من السنين الضوئية ليصلنا. هذا مع أن سرعة الضوء هي 300.000 كيلو مترا في الثانية الواحدة في الفضاء. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - خرج من نطاق كل هذا الكون الدنيوي إلى سماوات رأى فيها من العجائب ما لا يوجد شيء منه في كوننا هذا.
لعل الذي يعطينا فكرة عن هذه المعجزة النبوية هو الرؤيا الصادقة؛ فالإنسان قد يرى في منامه وقائع يستغرق حدوثها في الزمان المعهود بضع ساعات أو أيام أو أشهر، لكنه يراها في بضع ثوان هي المدة التي يقول المختصون: إن الرؤيا مهما طالت لا تتجاوزها.
وإذا كان الناس يقيسون ما يعدهم الله به بمقياس أيامهم المعهودة؛ فإن الله - تعالى - يذكرهم بأنه - تعالى - يقيس الأمور بأيام هي أطول من أيامهم بكثير.
قال - تعالى -: {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: ٧٤].
قال الإمام ابن كثير: أي: هو - تعالى - لا يعجل؛ فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه؛ لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء وإن أجل وأنظر وأملى.