- اسم الكاتب: د سلمان فهد العودة
- التصنيف:ثقافة و فكر
أظن أنني أضع يدي على عيب من أعظم عيوب التفكير والعمل لدى المسلمين, وإن لم أكن قادرا على تشخيصه بدقة, ومعرفة أسبابه ، يكفي أن أدونها ملاحظة غير عابرة ولا عاجلة , على طرائقنا في العيش والعمل والحياة والتفكير, ولعل أي فكرة مؤيدة أو ناقدة ستقدح زناد العقل حول هذا الموضوع الخطير ..
لو كان لدي فكرة جديدة ؛ لخصصت 90% من وقتي لشرحها , وخصصت الباقي للدفاع عنها, ومهاجمة خصومها..
لكن ما الذي يحدث عادة ؟
حين يكون لديك فكرة مهمة؛ فأنت تخصص دقائق للحديث عنها وشرحها ، ثم تخصص بقية عمرك لمهاجمة المختلفين مع هذه الفكرة, وكشف أستارهم, وهتك أسرارهم, وفضح أساليبهم, وبيان تناقضاتهم ومخازيهم !
وكأنك لا تصل إلى نهاية المضمار إلا من خلال تعويق الآخرين وتعثيرهم ، بينما أنت تعوق نفسك أيضا .
الأصل هو شرح الفكرة وتفصيلها, وتصريف البيان واستخدام كافة الوسائل والتقنيات والطرائق والأساليب ، في سائر الأوقات ، وحشد الأدلة ، وتأسيس البناء وتعميقه وترسيخه ، ثم تشييده ورفعه ، ثم توسيعه ونشره ، ثم يأتي بعد ذلك الدفاع عنه وحمايته ، وإلا فما قيمة دفاع عن بناء أو مشروع لم يبدأ بعد أو لم تتضح صورته, أو تتبين معالمه ؟!
كثيرا ما ننشغل بنقيض الفكرة؛ لأنه لا فكرة لدينا ، وربما نعتبر وجود الخصوم هدية لنا؛ لأنه يتم التعرف والتعريف بنا من خلال " النقيض " ، ولا مبالغة أن كثيرا من الحركات والجماعات والأيديولوجيات ليس لها ظهور ولا حضور ولا تميز إلا عبر تحديدها بالأعداء ؛ فهي فكرة يحدها من الشرق مذهب, ومن الغرب تيار ، ومن الشمال مؤامرة, ومن الجنوب مشكلة !
جهود كبيرة قامت على مناقضة الآخرين, ولم يعجبها صنيعهم, وكثيرا ما يسهل علينا التخطئة, لكن لا نملك التصويب العملي إلا عبر نصائح مجملة , لو تمكنا وقدرنا ما عرفنا كيف نحولها إلى برنامج واقعي.
إن الشريعة قامت على أساس نشر المبدأ والحق أولا ، وتكريس الجهد للمصالح والخبرات والفضائل ، وصرفت لذلك جل الاهتمام ، وهذه دائرة " الحق " والله تعالى يقول : (فماذا بعد الحق إلا الضلال) .
والضلال والباطل والخطأ لا يتناهى؛ ولذا فلا معنى لتعديده وتحديده والانشغال به إلا بقدر ما يوضح الحق ويحميه من الالتباس, فإذا انعكست الآية وصار الجهد يصرف لبيان الباطل وكشفه ، والحق يرد في الهامش؛ فقد وقع الخلل والزلل والالتباس .
القضية فعلا ملتبسة؛ لأن ثم من ينظر المسألة بأنها " الصراع مع الباطل " وهذا حق لا تردد فيه ، وهو شريعة قائمة ، وأيضا هو سنة ماضية , بيد أن ثم فرقا بين أن يكون لب نشاطنا وجوهر اهتمامنا بيان الحق وتجليته والهوامش والنهايات لدحض الباطل ورده ، وبين أن يقع العكس من حيث ندري أو لا ندري فننشغل ببيان الباطل ورده عن تأسيس الحق وتكريسه, فرق بين من يسير وطريقه واضح ، وهو يدري أن ثم من سيحاول تعويقه ، وأن هذا قدر مقدور عليه مدافعته بالتي هي أحسن إن أمكن, كما أمر الله في مواضع من كتابه , وكما هو هدي الأنبياء جميعا ، وفهم المصلحين ، وما لم يندفع بالحسنى فيعرض عنه ، وما يتوقف على بيانه مصلحة شرعية فيبين بقدر الحاجة.
فرق بين هذا ، وبين من ملأ التوجس قلبه من خصومه وأعدائه ومخالفيه ومعارضيه ، وصارت خيالاتهم تلاحقه ، والشكوك تغذيه حتى شك في صديقه وجاره وزميله ، وصار جاهزا للتصنيف إما معي أو ضدي ، وكأنه يمثل الحق ، وليس مجرد دليل أو مرشد.
هذا أولا :
ثم فرق بين بيان الحق الرباني الذي أمرنا بالتواصي به (وتواصوا بالحق) ، وبين أن نكون " نحن الحق " وما سوانا الباطل ، كلا بل ينبغي أن نعرف أن بعض ما لدينا كأفراد أو جماعات أو مؤسسات أو دول أو مجتمعات يختلط فيه الحق بالباطل ، وقد يوجد الباطل صرفا فيحتاج إلى نفيه والتخلص منه , بدلا من اعتقاده والدفاع عنه وتسويغه أو التستر عليه .
وقد يوجد عند خصومنا " الأشرار " - فيما نحسب وندعي- شيء من الحق, يحتاج إلى أن نتواضع له ونتعرف عليه, ونستفيده بثقة المؤمن الذي يطلب الحكمة أنى وجدها .
تحويل الحياة إلى معركة خطأ ، نعم ..كثير من الدول والحكومات تضع عدوا لتحاربه وتجمع الناس عليه ، لكن هذا بمعزل عما نتحدث عنه من " تصدير الصراع " أي : جعله في دائرة الصدارة ، الصراع ينبغي أن يكون في الهوامش والأطراف والنهايات, وبقدر الضرورة والحاجة ، ولب الوقت والجهد والعمر والمال يجب أن يصرف في الخانة الأولى ذات الأهمية القصوى التي هي دائرة البناء وتعزيز الفكرة وترسيخها .
الثقافة الموروثة ، والعادات الاجتماعية ، والظروف الوقتية صنعت لدى الإنسان المسلم والعربي خاصة ميلا إلى الصراع, حيث لا يجد نفسه إلا فيه ، وكأن خصومه وأعداءه يقدمون له الفرصة على طبق من ذهب؛ لينفعل ويتحرك, وتدور عيناه, ويستجمع قوته وجدارته وغضبه واستعداده للنزال ، حتى أدبنا وشعرنا ومدائحنا وقصصنا غالبا ما تتمحور حول الموقف من الخصم أو العدو ، والذي لا مجال فيه للمهادنة ولا الصلح, فضلا عن التسامح والإغضاء أو الدفع بالتي هي أحسن.