التفكُّر عبادة ربانية وضرورة دعوية

7 1975

حقيقة التفكر:
التفكر سياحة نورانية ورياضة إيمانية؛ ينطلق فيها القلب في وعي، والعقل في يقظة معا بعيدا في ساحات الإيمان بلا قيد من جواذب الأرض وقيود الشهوات؛ ليجتمعا على التقاط الحكمة والمعرفة وتحقيق معاني الإيمان والترقي في درجات العبودية.
والتفكر فرصة عظيمة لاكتشاف مساحة بعيدة شديدة العمق في النفس الإنسانية يصعب الوصول إليها في غير تلك الأجواء النفسية الصافية التي تمتزج فيها أنوار التدبر مع صفاء النفس حتى تصل إلى حقائق العبودية بما فيها من ضعف وعجز وذلة وعوز، ومشاهدة كمالات الربوبية بما فيها من: كمال وجمال وجلال.
وهو يبدأ بعمليات سهلة بسيطة؛ يلتفت فيها القلب إلى عظيم الآيات المبهرة وعظيم قدرة الله في خلقه، وجلاله في فعله وتدبيره، في عملية يسيرة لا تحتاج في بدايتها لكبير مجاهدة، ترتقي إلى درجات أعلى في معانيها وأعمق في تأثيرها، لا يتمكن من الوصول إليها إلا بنوع من المجاهدة ولا يستطيعها إلا من رزق حظا من البصيرة وقسطا من السمو الروحي، وفيها يتجاوز المؤمن بنور بصيرته نور بصره، ويتجاوز ظواهر الأشياء إلى حقائقها، ويرى فضل المنعم من وراء النعم، ويشاهد عظيم قدرة الله في كل حركة وسكنة في الكون، ويجمع من عجائب آيات الكون والنفس وعظيم حكمة الشرع؛ فينصب من جميعها شواهد على جلال أسماء الله وصفاته وعظيم قدرته وحكمة تقديره.

شرف التفكر وعظيم قدره:
أمر الله - سبحانه - بالتفكر والتدبر في كتابه العزيز، وأثنى على المتفكرين بقوله: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} وقال - سبحانه -: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.
ونعى - سبحانه - على الغافلين عن النظر والتدبر في كونه، فقال - عز وجل -: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } وقال - سبحانه وتعالى -: {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون}.
والتفكر بمعناه الواسع ودوائره المتعددة التي تشمل النظر في آيات الله الكونية، والتفكر في آيات الله المقروءة في كتابه الكريم، والتدبر في عظيم فعل الله وبديع تدبيره وسنن الله في كونه، يعد في وسائل التزكية وخطوات التربية وسيلة هامة وخطوة كبيرة لبناء نفس مزكاة، وبدونه تتحول النفوس إلى نسيج هش، والعقول إلى مستودعات خاوية، وتغيب عن القلب حقيقة العبودية.
ويكفي في شرف التفكر، وعظيم قدره، ومسيس حاجة المؤمنين عامة والدعاة الربانيين له خاصة، أن أصول أعمالهم ورأس مالهم الذي عليه تبنى ربانيتهم: من تلاوة، وقيام، وعلم، وذكر، لا تكمل ولا تثمر بدون نوع تفكر يسري فيها كسريان الروح في الجسد؛ فيستجلي به العبد من التلاوة مقاصد الرب من كلامه، ويفجر به معاني العبودية في قيامه، ويستعين به على تحقيق مقصد العلم من العمل. يقول الإمام ابن القيم حين يصف التفكر وعظيم شرفه: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة؛ فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة...".

خصائص التفكر وتنوع دوائره:
من جميل خصائص التفكر أن توجه الأمر به إلى مساحات فسيحة ودوائر متعددة لا تترك مجالا يتسلل منه الملل للقلوب، ولا منفذا يتسرب منه الخمول للعقل، وما ترك بابا يوصل لحقيقة الإيمان إلا طرقه؛ فالأمر به اتسع ليشمل المحسوس والمعنوي، وتجاوز المادي إلى الغيبي. وطلب النظر في الدنيا كما أمر بالتفكر في الآخرة، ورغب في التفكر في النفس واستجلاء آياتها والنظر في الكون والتقاط جميل إبداعه، كل ذلك في عملية فريدة تغذي العقل بالحكمة وتقوي القلب باليقين وتعين الجوارح على إحسان الطاعة؛ فتجمع مع عبادة الباطن عبادة الظاهر ومع حركة القلب نشاط العقل.
وكما أن دوائر التفكر ومجاريه منوعة، فكذا الوارد من أنوار التفكر شديد التنوع؛ فالعبد إذا سرح في رياض الأسماء والصفات وتأمل آثار صفات جلال الرب وكماله، ينشرح صدره ويذوب حياء وحبا؛ لـما يرى من واردات أنوار الإحسان والعفو والستر والرحمة، ويقشعر قلبه خوفا ويذوب خشية عندما يطيل النظر في معاني أسماء البطش والقهر والجبروت.
وتتصاغر إليه نفسه عند تذكر ذنوبه والتأمل في حال نفسه وعظيم تقصيره، مع تذكر عظيم نعم الله عليه وواسع عطائه وفضله وجميل آياته في خلقه وتقدير رزقه وتدبير أموره؛ فيستشعر القلب عظيم المنة، ويلهج اللسان بالشكر والثناء على المنعم.
 وحين يسرح بفكره في رياض الجنة؛ فيرى بعين قلبه أنهارها وثمارها وحورها؛ فيهيج في قلبه حب لقاء ربه وتتفجر في نفسه طاقة عظيمة تقوي عزمه في طلب رضاه ويستعذب معها مكابدة الطاعة، وحين ينقل بصره تلقاء أهل النار ويعاين ما هم فيه من بؤس وشقاء، ويرى ما لحقهم من توبيخ وحسرة وندامة، يذوب قلبه كمدا على ما فرط.

وتذهل آيات الكون الفسيح عقله بما يحويه من مشاهد عظمة وبديع صنعة: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب  الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض} فيتكشف له في الكون من جميل الإبداع وعظمة الخلق ما تفنى الأعمار قبل الوقوف على ما فيها من أسرار أو تحصي ما فيها من عجائب.
وليس المقصود من تدبر آيات الكون الوقوف عند ظواهرها فقط، بل إدراك تلك الحقائق الضخمة التي تقف وراء هذا الكون العظيم، والتي تحدث تلك النقلة الاعتبارية المقصودة من التفكر عند أولي الألباب، وتتحول بهم من الوقوف على عظمة الخلق إلى عظمة الخالق؛ فيلقي في النفس التعظيم لهذا الخالق المبدع وتلهج الألسنة بذكر ربها: {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}.

مآلات التفكر وعظيم نفعه:
التعرف على الله: هو المقصود الأسمى والمطلوب الأهم من عبادة التفكر، وهو الغاية الجامعة لما سواها من غايات التفكر، وما سلك العابدون طريقا إلى ربهم أسرع ولا أرحب من التفكر.
 إن تعويد القلــب علـى التفكـر فـي كـون اللــه - عز وجل - ومـا بثه فيـه من آيات، والنظـر بعين القلـب لآثـار أسـماء الله وصفاته وحكمة أفعاله وواسع قدرته، يستنبت في القلب معاني التوحيد، ويستفيد منه العبد معرفة الرب وجلال عظمته.
إحسان العمل ودوامه: إن استدامة التفكر الذي يجمع بين وعي العقل وحضور القلب تصل بصاحبها إلى حسن الفهم عن الله، المورث للعلم الحقيقي الذي هو قناعة العقل واطمئنان القلـب وانقيـاد الجـوارح. قـال وهـب بن منبـه: "ما طالـت فكرة امـرئ قـط إلا فهـم، ومـا فهـم إلا علـم، وما علم إلا عمل" فهم موصل لعلم، وعلم محفز لعمل: حلقة متشابكة يوصل بعضها لبعض بلا انقطاع ولا توقف عند ظاهر العلم أو غياب عن مقصد العمل.
هجر الذنوب: التفكر في عظمة الله وواسع قدرته وعظيم بطشه وشديد انتقامه يورث القلب خوفا مزعجا وخشية تحول بينه وبين شهوات نفسه وأهوائها؛ فالأثر النوراني لهذا التفكر يعرقل عمل الشهوات في القلب ويدفع أهواءها على حسب قوة الوارد من أنوار التفكر؛ فتسلب الشهوة من عاجل لذتها فما يتبقى منهــا ســوء عاقبتهــا. قال بشر الحافي: "لو تفكر الناس في عظمة الله - تعالى - ما عصوه".

استجلاء حقائق الإيمان والتحقق بها: التفكر يكشف للقلب ما حجب عنه بسبب الذنوب من معاني الإيمان، ويجلب كل نوع من أنواع التفكر للقلب مشهدا من مشاهد الإيمان وحقيقة من حقائقه؛ فتظل معاني الإيمان وحقائقه: من يقين وخشية وحب ورجاء وتـوكل وإنابة تلوح للقلب في جولات التفكر، وكلما كان التفكر في حضرة من القلب وحضور من العقل كانت حقائق الإيمان أكثر وضوحا واشد تأثيرا. قال الحسن: عن عامر بن عبد قيس قال: "سمعت غير واحـد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد  يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر".

رقة القلب: حينما تستمر جولات التفكر وتتنوع دوائرها؛ فإن ذلك يورث القلب رقة وإخباتا لما ينطبع فيه من مشاهد العظمة والقدرة والقهر التي تطرد دواعي الكبر والعجب وتستنبت بذور الذل والتواضع، ومن مشاهد العفو والرحمة والإحسان والجود ما يستمطر أسباب الحياء والشكر؛ فيندفع مع كل مشهد من مشاهد التفكر وكل جولة من جولاته باعث من بواعث الشر ويستجلب باعثا من بواعث الخير، ولا يزال القلب في ميدان التفكر يدافع الشر ويستجلب الخير حتى يبلغ من الرقة ما يكون معه على حال كريمة قريبا من الله قريبا من رحمته.
التفكر أكثر ما يحتاج إليه الدعاة:
والتفكر وإن كانت حاجة الجميع إليه ملحة إلا أن الدعاة هم من أكثر أصناف الخلق حاجة إليه؛ لما يمثله التفكر في حياة الدعاة من معين روحي وعقلي يمدهم بكثير من مقومات بنائهم الذاتي ونجاحهم الدعوي، ومن عظيم فوائد التفكر للدعاة فضلا عما سبق:
روحانية تعين: إن لحظات التفكر الصافية التي يجتمع على القلب فيها من معاني الإيمان وحقائقه ومقامات العبودية، تمد الداعية بجزء كبير من زاده الروحي الذي يؤهل الداعية لاستحقاق مدد الله من العون والنصرة.
والتفكر يوفر للداعية من اليقين وحسن الفهم عن الله ما ينسكب على أخلاقياته صبرا جميلا مع المدعوين وحسنا في الخلق يثبت المودة في قلوبهم، وما يبدو منه من هدوء نفس وجميل سمت أسبغته عليه جلسات التفكر يفتح قلوب المدعوين على مصراعيها لدعوته ويلزمهم طيب المعشر.
الوقوف على مواطن الضعف والقوة: فالتفكر مرآة تعكس بنور البصيرة خبايا النفوس وعيوبها؛ وفي جلسات التفكر الصافية البعيدة عن تزيين الشيطان وحظوظ النفس يصل الداعية لمساحات واسعة يصعب الوصول إليه في منظومته النفسية ونفوس من حوله من تلامذته ومحبيه بما اختبأ فيها من طبائع وأخلاقيات ومواطن ضعف ومكامن قوة؛ حتى إذا قام ليضع خطة نهوضه وخريطة سيره؛ فعن بينة يسير وعن بصيرة ينطلق. قال الفضيل: "الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك".
تصحيح المسار: وللداعية من مواطن التفكر ومساحات التدبر ما قد يغيب عن غيره الاعتبار به: من النظر فيما يجري من محن وابتلاءات في حياة أصحاب الدعوات، وما يقع في مسيرتهم من حوادث تحمل الكثير من العبر، ووقائع تحمل العديد من الدروس: من هزيمة ظالم، وانتصار مظلوم، ومن جريان الأيام دول بين المؤمنين والكافرين، وغير ذلك ، من زاد السابقين وخبرات اللاحقين وتجارب أهل الدعوة، مما يلزم الداعية الاسترشاد به في دعوته.
ومع غياب جولات التفكر التي يمارس الداعية من خلالها مراجعاته الإيمانية ويجدد خططه الدعوية، يضعف حسن تواصل الداعية مع مدعويه ويتحول جانب كبير من العلاقة إلى مشاكل تستنزف كثيرا من الجهود؛ وذلك لـما يلمسه الجميع من غياب لجزء كبير من مرتكز اليقين الذي يؤسس في خلوات التفكر، وغياب لمساحة واسعة من ركن الفهم ووضوح الرؤية المقومة لمسار الدعوة.

إشكالية التفكر في واقعنا المعاصر ومقترحات عملية:
يشهد واقعنا المعاصر نوعا من التعقيدات والمشاكل التي تسللت لكل نواحي الحياة، واتسعت لتشمل كل زوايا النفس البشرية، مما ترك أثره على النفس تشويشا على صفائها، وتشتتا في اهتماماتها، وغفلة عن كثير من حقائق الكون والنفس، وكلها عوائق تصطدم وأساسيات التفكر الذي ينبني في أصله على اجتماع همة النفس وصفائها.
 ونشأ من ذلك إهمال واضح لعبادة التفكر أو نسيان لها في زحمة وتعدد المشاغل، وفي أحسن الأحوال يجد المرء صعوبة شديدة في المداومة عليها وأدائها على الوجه الذي يرجى منه أثر فعال يتجاوز رقة قلبية مؤقتة.
وهذه بعض المقترحات العملية التي يمكن أن تساعد في تنمية عبادة التفكر:
 - استغلال الأوقات الذهبية ومواسم الطاعات:
تتميز تلك الأوقات الذهبية: كـ (أوقات السحر ومواسم الخير في رمضان والعمرات) بأنها توفر البيئة المثلى لكثير من أنواع التفكر.
- الحرص على الرحلات الخلوية:
 فيجتهد المرء أن يفرغ نفسه كلما استشعر بجفاف روحي وعطش إيماني؛ ليرحل إلى مكان هادئ بديع بعيد عن صخب المدنية، تتوفر فيه من عجائب الخلق من سماء مرفوعة وأرض ممدودة ونجوم ساطعة وأشجار وأنهار ما يهيئ القلب لعبادة التفكر؛ فيعطي العين حقها من رؤية مشاهد القدرة والإبداع، ويمنح القلب فرصة ذهبية؛ ليحلق خارج دنياه الضيقة في رحابة الآخرة، ويساعد العقل على الانطلاق خارج اهتماماته المحدودة إلى قضايا حياته الكبرى.
 - التدرب على عمليات التفكر البسيطة:
التفكر أنواع بعضها فوق بعض، وبعض أنواع التفكر قد يحتاج لنوع مجاهدة ومستوى من الفهم ورصيد من الإيمانيات والعلم؛ ربما لا يبلغه الكثيرون، ولا يعني هذا أن يحرم من لم يمتلك تلك المؤهلات من عبادة التفكر، بل الواجب أن يتفكر كل امرئ على قدر ما حباه الله من عقل وفهم، والأمـر في قولـه - تعالى -: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض} {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}  لم يتوجه لفئة دون فئة، ولكنها دعوة ربانية ونداء إلهي للناس جميعا للنظر في الآيات في هذا الكون الفسيح، وفي ملكوت الله الواسع، وخلقه العظيم، وإبداع صنعته مما يلفت نظر أقل الناس عقلا ويحرك مشاعر أقسى الناس قلبا.
 - الصوم:
وهو من الطرق المعينة على التفكر؛ فالصوم يوقظ الفكرة ويضعف جذوة الشهوات، وبالمداومة عليه ينسكب على النفس سكينة تمنح صاحبها صفاء يعينه على دخول جولات التفكر، بخلاف إذا ما أكثر من الطعام والشراب؛ فيتثاقل عن الطاعة وتسد أمامه أبواب التفكر، ومن هنا قال بعضهم: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة.
أخيرا: مهما تكن من مشاغل وعوائق تمنع القلب من الإقبال على التفكر بهمة، وتعيق النفس عن الاجتماع عليه بنشاط؛ فإن فوائد التفكر وعظيم حاجة النفس البشرية إليه، تدفع دفعا لمصارعة الواقع بمشاكله ومدافعة ضغوطاته؛ لابتكار حلول لتجاوز تلك التحديات، والأخذ ولو بنصيب قليل من عبادة التفكر التي قد يؤدي فواتها إلى إحداث شرخ واسع في حقيقة العبودية.
___________
مجلة البيان العدد 268.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة