ثقافة الضجيج وثقافة التأمل

1 1010

استمرارا لمحاولة المشاركة الثقافية طلب مني كثير أن أؤصل لثقافة الضجيج وثقافة التأمل، وابتداء فأنا مع ثقافة التأمل وضد ثقافة الضجيج، وثقافة الضجيج تبني العقلية الهشة، التي لا تقدر على التفكير وعادة ما يسبق النشاط الفكر، وسبق النشاط للفكر أحد السمات العظمى في التأثير في الحضارات والفنون والآداب والحياة، وعدها عبد الواحد يحيى (رينيه جينو قبل أن يسلم) في كتابه عن الحضارة الحديثة أحد السمات التي قتلت الإنسان أمام نفسه، أما تأصيل ذلك من القرآن والسنة فنراه فيما يلي:

يحكي ربنا عن حال إبليس -وهو عنوان للشر والقبح- فيقول: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}  فوسائل إبليس تبدأ بالصوت - الضجيج - ثم يتأكد الضجيج بقوله (وأجلب) وهي من الجلب، ثم يتأكد الضجيج ثانية بالمشاركة وأن يصبح الضجيج جزء من حياتنا اليومية، وهي حالة يضيع معها كثير من التفكر والتدبر والتأمل، ويضيع معها شيء كثير من الراحة والهناء.

وإذا كان هذا من وسائل إبليس -عنوان الشر والقبح- فإنه منهج للتشويش على الحق، يقول سبحانه في شأن المشركين: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون}
فالمنع من سماع القرآن الذي يأمرنا بالتدبر والتفكر والتأمل واللغو أمامه، وعلو الصوت عند تلاوته يمثل ما بين الثقافتين من فوارق قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

وقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}. وقال سبحانه: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} ، وقال تعالى في وصفه لحال المؤمنين الصادقين: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} ، ثم كرر سبحانه مرات كثيرة {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}، ويجعل سماع القرآن واستماعه جزء من الدعوة الطيبة. قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} ، وقال سبحانه: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}.

الصوت.. النظر.. المعاملة
ثم يجعل الله علو الصوت والضجيج خارجا عن حد الأدب عند كل الناس، فيذكر من وصايا لقمان لابنه وهو يعظه: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} ، ويتحول هذا الأدب إلى تهذيب عام يشمل البصر والمعاملة بين الناس.

قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. ويأمرهم في خصوص النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الضجيج. قال تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم، إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم}.

ولا تجهر بصلاتك
وامتدت الثقافتان إلى الصلاة. قال تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} وقال سبحانه: {وقوموا لله قانتين} وقال: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}.

وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما رفعوا أصواتهم بالدعاء: "اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا" [النسائي ، والبيهقي].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الصوت الحسن، فأمر بلالا بالآذان وقال لعبد الله بن زيد، وقد كان عبد الله بن زيد هو الذي رأى رؤيا الأذان حيث قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. قال: فقال: تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.

قال ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتا منك". فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به - قال - فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد". [أبو داود والترمذي وابن حبان].

واتخذ أبا محذورة مؤذنا له بمكة؛ يقول عنه الذهبي: كان من أندى الناس صوتا وأطيبه. وقد روى قصة أذانه واختبار النبي صلى الله عليه وسلم للأصوات حيث قال: لـمـا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين خرجت عاشر عشرة من مكة أطلبهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة، فقمنا نؤذن نستهزئ بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت". فأرسل إلينا فأذنا رجلا رجلا، فكنت آخرهم، فقال حين أذنت: "تعال". فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبارك علي ثلاث مرات، ثم قال: "اذهب فأذن عند بيت الله الحرام" [سير أعلام النبلاء].

بر الأمان
وكان يقول صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأه على ابن أم عبد" [الطبراني والحاكم].
 وقال لحسـان بن ثابت عندما سـمـع شـعـره الذي ينصر فيه الإسـلام: "إن روح القدس معك" [أحمد والنسائي].

وسمع كعب بن زهير في قصيدته التي افتتحها بقوله:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول *** مـتيم إثرها لـم يـفـد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا *** إلا أغن غضيض الطرف مكحول

هل لنا بعد هذا التأصيل أن نحاكم حالتنا الثقافية لنرى إلى أي جهة نميل أو ترغب أن تكون، إلى جهة ثقافة الضجيج أو إلى جهة ثقافة التأمل، وهل يصلح أن نبني معيارا من هذا كله للنقد الأدبي والفني يخرجنا من التيه أو يرسوا بنا على بر الأمان؟

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة