رداء الوقار

1 1579

 الوقار والرزانة والسمت الحسن من الصفات النبيلة التي ينبغي أن يتميز بها القدوات من العلماء والدعاة وأهل الرأي. وهي من المحاسن التي تدفع الناس إلى الاقتداء بهم والاطمئنان إلى منهاجهم، وتأمل معي قول الحارث بن عمرو السهمي – رضي الله عنه -: (أتيت رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - وهو بمنى أو بعرفات، وقد أطاف به الناس. قال: فتجيء الأعراب، فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك)[صحيح أبي داود].

وقد كان النبي  - صلى الله عليه وسلم - حريصا على أن يتميز الصحابة – رضي الله عنهم – بأبهى صورة، وأجمل هيئة، ويقول لهم: إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم، حتى تكونوا كالشامة في الناس؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش[أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه ابن حجر].

وإذا كان حسن السمت الظاهر مما ينبغي التواصي به، فإن خلق الإنسان الذي يمشي به بين الناس من باب أولى، وقد ثبت من حديث عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة[أخرجه أحمد وحسنه الألباني].

والوقار صفة تبعث على التزام السكينة والوداعة، ويقال في اللغة: رجل وقور؛ أي: ذو حلم ورزانة[لسان العرب 15 /365].

وينبغي لمن تربى في محاضن العلم والدعوة، أن تزكو نفسه، وتسمو همومه وطموحاته، وأن يظهر أثر هذه التربية في حياته كلها، كما قال الحسن البصري: (قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه وبصره، وبره)[شعب الإيمان: 2 /291]. ونحوه قول الإمام مالك: (إن حقا على طالب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعا لأثر من مضى قبله)[ الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع:1/156].

وعندما تتأمل سير العلماء تقف على نماذج مشرقة من حسن السمت والوقار والرزانة؛ فها هو ذا أبو داود السجستاني (صاحب السنن المشهورة) يقول عن شيخه الإمام أحمد: (لقيت مائتين من مشايخ العلم، فما رأيت مثل أحمد بن حنبل؛ لم يكن يخوض فيما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم)[ حلية الأولياء: 9 / 164].

وهذا الوقار الذي عرف به الإمام أحمد جعل شيوخه يجلونه ويهابونه ويقدرون مكانته، ومما ينبغي أن يتأمله الدعاة والمصلحون قول خلف بن سالم: (كنا في مجلس يزيد بن هارون، فمزح يزيد مع مستمليه، فتنحنح أحمد بن حنبل، فضرب يزيد بيده على جبينه، وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد ها هنا حتى لا أمزح)[ وسير أعلام النبلاء11 /194].

وكان أحد المحدثين عند شيخه إسماعيل بن علية، فتكلم إنسان، وضحك بعضهم، وثم أحمد بن حنبل، فأتوا إسماعيل فوجدوه غضبان، فقال: (أتضحكون وعندي أحمد ابن حنبل؟)[مناقب الإمام أحمد:68].

فإذا كان هذا التقدير من شيوخه، فإن تقدير تلاميذه، وعامة الناس من حوله من باب أولى.

ومع ذلك فإن الحسنة منزلة بين السيئتين؛ فليس الوقار المقصود يعني الفظاظة والغلظة وجفاء الطبع، وأن يكون العالم أو الداعية عابس الوجه مقطب الجبين؛ إذ ليس ذلك من محاسن الأخلاق، ولا من علامات الشرف والسؤدد الذي ينبغي أن يتحلى به الدعاة؛ وإنما المقصود الترفع عن الفحش والبذاءة، والبعد عن الخفة والسفه وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يضحك، ويمازح أصحابه – رضي الله عنه - لكنه لا يقول إلا حقا[الترمذي وقال: حسن صحيح].

ذلك أن الوقار يقصد به ترفع الداعية عن اللهو وسفساف الأمور، والمزاح العابث، والاشتغال بما لا فائدة فيه: كالاشتغال بتوافه الأمور، والإفراط في التنزه، والسمر، واتباع الصيد، والتشجيع الرياضي، والتعصب القبلي... ونحوها.

وإني – والله – لأعجب أشد العجب من صاحب رسالة يقتدى به كيف تطيب نفسه بهدر أوقات طويلة في تلك الأمور التي أقل ما يقال عنها: إنها لا تليق بالرواد المصلحين.

وقد رأيت بعض فضلاء الدعاة إذا خلوا بخواصهم أو أقرانهم توسعوا في الضحك، والممازحة؛ حتى يبلغ بهم الأمر أحيانا إلى الخروج عن حد الوقار والاعتدال، ولعل الحافظ ابن الجوزي يشير إلى أمثال هؤلاء بقوله: (رأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط ومزاح، فراحوا عن القلب، وبدد تفريطهم ما جمعوا من العلم، فقل الانتفاع بهم في حياتهم، ونسوا بعد مماتهم، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم)[ صيد الخاطر: 144].

وأحسب أن التوازن والاعتدال في شخصية الداعية يحفظ له هيبته وقدره عند الناس، ويزيد من بركته وفضله في دعوته.

إن مشروع النهضة والتجديد الذي يحمله الدعاة والمصلحون يعرف من خلال سيرتهم العملية؛ فالواقع الشخصي الذي يشاهده الناس هو عنوان ذلك المشروع، وهو الذي يعبر بجلاء عن صفائه واستقامته، ولهذا كان أسـمى ما يرتديه الداعية أمام نفسه وأمام الناس رداء الصدق والوقار.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة