الثمار العقديّة للإيمان بالقضاء والقدر

1 2555

{وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده}   (يونس:107) هكذا ربى الإسلام أتباعه على اليقين بالله، والثقة به، والتوكل عليه، والاطمئنان إلى حكمته وتدبيره، والرضا بقضائه وقدره، وبهذه الثوابت الإيمانية والمعتقدات الربانية  تربى المؤمنون على سلامة التوحيد، ورسوخ العقيدة، حتى يغدو الفرد منهم كالجبل الأشم، لا تهزه عواصف الفتن وألوان البلايا.

وهذا اليقين بقضاء الله وقدره ينعكس أثره على الأفراد والمجتمعات على حد سواء، فتتغير نظرتهم للحياة وأسلوبهم في التعامل مع مجرياتها، وإدراكهم لسننها ونواميسها.

وعند استقراء نصوص الوحيين –كتابا وسنة- نجد أن للإيمان بالقدر معان عظيمة وفوائد جليلة تعود بالنفع على معتقد الشخص، وعلى سلوكه ونفسيته، وسوف نقتصر هنا على سرد شيء مما يتعلق بجانب المعتقد فنقول وبالله التوفيق:

إن الإيمان بالقدر سبب في زيادة الإيمان، وتحصيل الهداية؛ ذلك لأنه من الاهتداء المأمور به شرعا والمبشر صاحبه بالتوفيق والسداد، قال سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} (محمد:17).

وكلما ترقى العبد في تحقيقه لهذا الركن الركين والأصل الأصيل كلما زاد رصيده الإيماني، وظهرت آثار ذلك على أفعاله وأقواله، فتجده حريصا على التزود من الصالحات، والإكثار من الطاعات، والابتعاد عن السيئات، لعلمه أن الموت قد يفجأه في أية لحظة، فيكون حاله كمن يسابق الزمن في سبيل تحصيل الخير والتقرب إلى الله تعالى.

ومن آمن بالقضاء والقدر حقق التوحيد، ومن حقق التوحيد خلص من الشرك، وبيان ذلك أن الإيمان يدفع صاحبه إلى التوكل على الله وحده، وتفويض الأمور إليه، فيعلم أن النفع والضر، والإحياء والإماتة، والعطاء والمنع، بيد مالك الملك ومقدر الأرزاق ومقسم الأقوات، وبذلك يخلو قلب العبد من التعلق بغير الله تعالى، ويزيل خيوط العنكبوت التي نسجتها ضلالات الوثنية ومسالك الجاهلية، والتي أفسدت عقائد الناس وأضلتهم عن سواء الصراط، وأغرقتهم في بحار الوهم وأوحال الدجل.

ولذا فإنك لا تجد عند المؤمن بالقدر تلمسا للخير في النجوم والطوالع، أو التماسا للغيب من الكهنة والعرافين، أو طلبا للنجاة من السحرة والمشعوذين، أو تعلقا ساذجا بالودائع والتمائم، أو خوفا من المستقبل بالطيرة والتشاؤم، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بإذن الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام:82).

ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: الصبر على مر القضاء وشدة البلاء، وإن صاحبه ليرزق ثباتا عند المحن كثبات الطير في شدة العواصف، لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما جاء في النصيحة النبوية لابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك) وفي رواية: ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعواعلى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) رواه الترمذي .

ومنشأ العلم المذكور في الحديث السابق: الإيمان الجازم بالحكمة الإلهية في تصريفه للكون، وأنه يختار لعبده ما هو أصلح له وأنفع في الحال والمآل، فيرزق المؤمن به ثباتا في الجنان وارتياحا في النفس وطمأنينة في الشعور، فضلا عن العطاء الإلهي والجزاء الأخروي المذكور في قوله تعالى: {وبشر الصابرين, الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون, أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (البقرة:155-157).

على أن المؤمن بقضاء الله وقدره لا يغتر بإيمانه ولا يعتمد على عمله، لأنه يعلم أن هذه القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ومادام أن الغيب مستور والقدر محجوب عنا معاشر المكلفين فلا أمان من الانتكاسة والتراجع والنكوص على العقبين، وإنما العبرة بالخواتيم، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: (فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها) رواه البخاري ؛ ولذلك تجد العبد يتبرأ من حوله وقوته ويسأل الله في يومه وليلته أن يثبته على الدين وأن يميته على الإسلام وأن يحسن له الختام، وقد كان من دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) رواه الترمذي وابن ماجة .

ومن ثمار الرضا بالقضاء والقدر وآثاره: شكر الله تعالى على ما أنعم به في قديم أو حديث، أو خاصة أو عامة، أو سر أو علانية؛ سلوكا للأدب مع الله تعالى المتفضل على عباده بالنعم، كيف وقد قال في محكم كتابه: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} (إبراهيم:7)؟!.

وبالجملة فإن الوصول إلى مرتبة الرضا أمر ليس باليسير، يحتاج إلى مكابدة للنفس ومسايسة لها، خصوصا إذا تعلق الأمر بالمكاره، وما أحسن قول بعض العارفين: "ارض عن الله في جميع ما يفعله بك؛ فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك؛ فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين، فتسقط من عينه".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة