أولئك هم الراضون بقضاء الله(1)

9 2630

مع كل خطب مؤلم، وحدث موجع، وأمر جلل، يتساقط الناس صرعى لمشاعر اليأس والقنوط، حتى لا تكاد تجد حولك إلا أنفسا كسيرة، وأعينا دامعة، وأكبادا محروقة، ومنهم من يتحول حزنه سخطا على الخالق وحنقا على تقديره، وآخرون يستبد بهم الإحباط فلا تكفيهم تعازي الأهل ولا تسلية الأحباب، ولا تجدي معهم العقاقير المهدئة والأدوية المسكنة، ولربما طوح بهم البلاء إلى أودية الإدمان أو الانتحار.


ومن بين هذه الغيوم القاتمة يبرز فئام من الخلق، لا ينظرون إلى الحياة إلا بنظرة التفاؤل، فيتلمسون المنحة في المحنة، ويترقبون تبدل الأحوال وانجلاء النوازل وسط أجواء الكرب والمصيبة، حاديهم في ذلك قول الباري تبارك وتعالى: { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (البقرة:216)، ومهما كانت رياح القدر عاتية فإنها لا تكسرهم -وإن انثنوا أمامها- حتى تزول، ثم ينفضون عنهم غبار الأحزان رضا بالمقدور وثقة بالله وبحكمته وتدبيره، فهم جواهر نفسية ودرر مضيئة، فيا سعد من كان منهم: أولئك هم الراضون بقضاء الله وقدره.


واليوم لنا وقفة مع عجيب أخبارهم،  وجولة سريعة في رياض التاريخ قديما وحديثا؛ نقتبس منها العظة والعبرة، مقتصرين في ذلك على أخبار الأخيار والصالحين دون الأنبياء والمرسلين:


تروي لنا أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت حينما توفي زوجها: "إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها"، وأرادت أن تقول: "وأبدلني خيرا منها" كما جاء في السنة، لكنها تساءلت قائلة: "ومن خير من أبي سلمة؟"، ودارت الأيام حتى تزوجها  رسول الله -صلى الله عليه و سلم- سيد الخلق أجمعين، رواه أحمد.


وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن امرأة سوداء أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت له: "إني أصرع، وإني أتكشف؛ فادع الله لي"، فقال لها: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)، قالت: "أصبر، وإني أتكشف فادع الله ألا أتكشف" فدعا لها، متفق عليه.


وروى هشام بن عروة بن الزبير ، أن أباه خرج إلى الوليد بن عبد الملك ، حتى إذا كان بوادي القرى وجد في رجله شيئا ، فظهرت به قرحة ، ثم ترقى به الوجع ، وقدم على الوليد وهو في محمل ، فقال : " يا أبا عبد الله اقطعها " ، قال : " دونك " . فدعا له الطبيب ، وقال : " اشرب شيئا كي لا تشعر بالوجع " ، فلم يفعل ، فقطعها من نصف الساق ، فما زاد أن يقول : حس حس –يتألم- . فقال الوليد : " ما رأيت شيخا قط أصبر من هذا  ".


وأصيب عروة بابنه محمد في ذلك السفر ، إذ ضربته بغلة في اصطبل ، فلم يسمع منه في ذلك كلمة ، فلما كان بوادي القرى قال : { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } ( الكهف : 62 ) : "اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحدا وأبقيت لي ستة ، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفا وأبقيت ثلاثة ، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت " رواه البيهقي في شعب الإيمان .


وقيل لأبي ذر رضي الله عنه : ياأبا ذر، إنك امرؤ لا يبقى لك ولد!، فقال : "الحمد لله الذي يأخذهم في الفناء ويدخرهم في دار البقاء" رواه الهيثمي في مجمع الزوائد.


وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعي إليه أخ له -وقيل بنت له- وهو مسافر، فما زاد على أن استرجع، وقال : "عورة سترها الله ، ومؤنة كفاها الله ، وأجر ساقه الله" ، ثم تنحى عن الطريق وصلى ، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : {واستعينوا بالصبر والصلاة } ( البقرة:45).


وعن عبدالرحمن بن غنم قال: حضرت معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو عند رأس ابن له يجود بنفسه، فما ملكنا أن ذرفت أعيننا أو انتحب –أي بكى- بعضنا، فحرد –أي: غضب- معاذ وقال: مه؟ والله ليعلم رضاي بهذا أحب إلي من كل غزاة غزوتها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ثم قال: ما يسرني أن لي أحدا ذهبا وأني أسخط بقضاء قضاه الله بيننا. فقبض الغلام، فغمضناه، وذلك حين أخذ المؤذن في النداء لصلاة الظهر. فقال معاذ: عجلوا بجهازكم؛ فما فجأنا إلا وقد غسله وكفنه وحنطه خارجا بسريره، قد جاز به المسجد غير مكترث لجميع الجيران ولا لمشاهدة الإخوان؛ وتلاحق الناس ثم قالوا: أصلحك الله، ألا انتظرتنا نفرغ من صلاتنا ونشهد جنازة ابن أخينا؟ فقال معاذ: إنا نهينا أن ننتظر بموتانا ساعة من ليل أو نهار. ثم نزل الحفرة فناولته يدي لأعينه فأبى، فقال: والله ما أدع ذلك من فضل قوة، ولكني أتخوف أن يظن الجاهل أن بي جزعا واسترخاء عند المصيبة!. ثم خرج فغسل رأسه، ودعا بدهن فادهن، ودعا بكحل فاكتحل، ودعا ببردة فلبسها، وقعد في مسجده فأكثر من التبسم، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، في الله خلف من كل فائت، وغناء من كل عزم، وأنس من كل وحشة، وعزاء من كل مصيبة، رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا.


وعن نافع رحمه الله قال: "اشتكى ابن لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما فاشتد وجده –أي حزنه- عليه، حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث. فمات الغلام، فخرج ابن عمر رضي الله عنهما في جنازته، وما رجل أبدى سرورا منه!، فقيل له في ذلك فقال ابن عمر: إنما كان رحمة لي، فلما وقع أمر الله رضينا به".


وذكر الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أن أحد الصالحين ممن ابتلي في بدنه ودينه، أريد على القضاء، فهرب إلى الشام، فمات بعريش مصر، وقد ذهبت يداه ورجلاه، وبصره، وهو مع ذلك حامد شاكر.


وعن الربيع بن أبي صالح، قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج، فبكى رجل، فقال سعيد: ما يبكيك ؟ قال: لما أصابك، قال: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} ( الحديد: 22 ).


وعن مطرف قال: "زرت ابن الحصين وقد اشتد به كرامة البلاء، واستطلق بطنه –أي أصيب بإسهال شديد-، وثقبوا له السرير لأنه لا يستطيع أن ينزل عنه، فذرفت عيناي، قال: ما يبكيك؟ قلت: حالك، قال: لا تبك؛ لأني أحب ما يحب، ويشير إلى السماء".


وعن مخلد بن حسين قال: "كان بالبصرة رجل يقال له شداد، أصابه الجذام فقطع، فدخل عليه عواده فقالوا له: كيف تجدك؟ فقال: بخير، أما إنه ما فاتني حزبي بالليل منذ سقطت، وما لي –أي من حزن- إلا أني لا أقدر على أن أحضر صلاة الجماعة".


ووقف سليمان بن عبدالملك على قبر ولده أيوب فكان صابرا راضيا، وما زاد على أن قال: "اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه، فحقق رجائي، وآمن خوفي".
وعن زياد بن أبى حسان أنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك، فلما أتم دفنه استوى قائما وأحاط به الناس، فقال: رحمك الله يا بني، لقد كنت برا بأبيك، وما زلت منذ وهبك الله لي بك مسرورا، ولا والله ما كنت قط أشد سرورا ولا أرجى لحظة من الله فيك منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله، فرحمك الله وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك، وتجاوز عن سيئاتك، ورحم كل شافع يشفع لك بخير من شاهد وغائب، ورضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين. ثم انصرف.


وعن منصور عن إبراهيم أن أم الأسود أقعدت من رجليها، فجزعت ابنة لها، فقالت لها: "لا تجزعي اللهم إن كان خيرا –أي عاقبته خير في الدنيا والآخرة- فزد".


وعن علي بن الحسن بن موسى أن رجلا قال: لأمتحنن أهل البلاء، فدخل على رجل بطرسوس –وهو اسم مدينة على ساحل الشام- وقد أكلت الآكلة أطرافه، فقال له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت والله وكل عرق وعضو يألم على حدته من الوجع، وددت أن ربي قطع مني الأعضاء التى أكتسب بها الإثم، وأنه لم يبق مني إلا لساني يكون له ذاكرا، فقال له الرجل: متى بدأت بك هذه العلة؟، فنظر إليه وقال: أما كفاك الخلق كلهم عبيد الله وعياله؟ فإذا نزلت بالعباد علة فالشكوى إلى الله، وليس يشكى الله إلى العباد.


وعنه أن رجلا قد ذهب النصف الأسفل منه، ضرير على سرير مثقوب، فدخل عليه داخل فقال له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟، قال: ملك الدنيا، منقطعا إلى الله، ما لي إليه من حاجة إلا أن يتوفاني على الإسلام.


ويذكر أن أعرابية فقدت أباها ثم وقفت بعد دفنه فقالت: يا أبتي , إن في الله عوضا عن فقدك, وفي رسوله -صلى الله عليه وسلم- من مصيبتك أسوة، ربي لك الحمد , اللهم نزل عبدك مفتقرا من الزاد, مخشوشن المهاد, غنيا عما في أيدي العباد, فقيرا إلى ما في يدك يا جواد, وأنت يا ربي خير من نزل بك المرملون, واستغنى بفضلك المقلون, وولج في سعة رحمتك المذنبون , اللهم فليكن قرى –ضيافة- عبدك منك رحمتك, ومهاده جنتك. ثم انصرفت راضية بقضاء الله محتسبة للأجر.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة