أولئك هم الراضون بقضاء الله(2)

9 2652

عن الأصمعي قال: خرجت أنا و صديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت : ما أنتم؟ قلنا : قوم ضالون عن الطريق أتيناكم فأنسنا بكم، فقالت : يا هؤلاء ولوا وجوهكم عني حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل. ففعلنا فألقت لنا مسحا –أي خرقة- فقالت : اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني. ثم جعلت ترفع طرف الخيمة و تردها إلى أن رفعتها فقالت : أسأل الله بركة المقبل! أما البعير فبعير ابني، و أما الراكب فليس بابني. فوقف الراكب عليها فقال : يا أم عقيل أعظم الله أجرك في عقيل قالت : ويحك ! مات ابني؟ قال : نعم قالت : و ما سبب موته ؟ قال : ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر فقالت : انزل فاقض ذمام القوم. ودفعت إليه كبشا فذبحه و أصلحه، وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل و نتعجب من صبرها! فلما فرغنا خرجت إلينا و قد تكورت فقالت : يا هؤلاء هل فيكم من أحد يحسن من كتاب الله شيئا؟ قلت : نعم، قالت : اقرأ من كتاب الله آيات أتعزى بها، قلت : يقول الله عز و جل في كتابه : { وبشر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } (البقرة:155-157)، قالت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا ؟ قلت : آلله إنها لفي كتاب الله هكذا ! قالت : السلام عليكم ثم صفت قدميها وصلت ركعات ثم قالت : { إنا لله و إنا إليه راجعون } عند الله أحتسب عقيلا -تقول ذلك ثلاثا-، اللهم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني.

وعن البراء المازني رحمه الله قال: مات في الطاعونلصدقة بن عامر المازني سبعة بنين في يوم واحد، فدخل، فوجدهم قد سجوا جميعا-أي كفنوا-، فقال: اللهم، إني مسلم مسلم.

وعن عقبة أنه مات له ابن يقال له: يحيى ؛ فلما نزل في قبره قال له رجل: والله! إن كان لسيد الجيش فاحتسبه، فقال عقبة: وما يمنعني أن أحتسبه وقد كان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات.

وعن عبد الرحمن بن عمر قال : دخلت على امرأة من العرب بأعلى الأرض في خباء لها وبين يديها بني لها قد نزل به الموت، فقامت إليه فأغمضته وعصبته وسجته، ثم قالت: يا ابن أخي، قلت: ما تشائين؟ قالت: ما أحق من ألبس النعمة وأطيلت به النظرة أن لا يدع التوثق من نفسه قبل حل عقدته والحلول بعقوته والمحالة بينه وبين نفسه؟، قال: وما يقطر من عينها قطرة صبرا واحتسابا، ثم نظرت إليه فقالت: والله ما كان مالك لبطنك ولا أمرك لعرسك! ثم أنشدت تقول:
       رحيب الذراع بالتي لا تشينه ... وإن كانت الفحشاء ضاق بها ذرعا

وكان صلة بن أشيم في غزوة ومعه ابن له فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى أحتسبك،فقاتل حتى قتل، فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية فقالت: مرحبا، إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحبا بكن؛ وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.

وذكر ابن حبان في الثقات عن عبد الله بن محمد قال : " خرجت إلى ساحل البحر مرابطا، فلما انتهيت إلى الساحل إذا أنا بخيمة فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه، وثقل سمعه وبصره، وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه وهو يقول : اللهم أوزعني أن أحمدك حمدا أكافىء به شكر نعمتك التي أنعمت بها علي، وفضلتنى على كثير ممن خلقت تفضيلا، فقلت : والله لآتين هذا الرجل ولأسألنه أنى له هذا الكلام!!، فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت : سمعتك وأنت تقول اللهم أوزعنى أن أحمدك حمدا أكافىء به شكر نعمتك التي أنعمت بها علي وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا، فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها !؟، وأي فضيله تفضل بها عليك تشكره عليها !!؟، قال : أوما ترى ما صنع ربي!! والله لو أرسل السماء علي نارا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فبلعتني، ما ازددت لربى إلا شكرا ؛ لما أنعم علي من لساني هذا، ولكن يا عبد الله إذ أتيتني فإن لي إليك حاجة، قد تراني على أي حالة أنا، أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع، ولقد كان معي ابن لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضيني، وإذا جعت أطعمني، وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فتحسسه لي رحمك الله . فقلت : والله ما مشى خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجرا ممن يمشي في حاجة مثلك . فمضيت في طلب الغلام، فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه، فاسترجعت وقلت : بأي شيء أخبر صاحبنا ؟ فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أتيته سلمت عليه، فرد علي السلام، فقال : ألست بصاحبي؟، قلت : بلى، قال : ما فعلت في حاجتي؟، فقلت : أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟، قال : بل أيوب النبي !!، قلت : هل علمت ما صنع به ربه؟ أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟، قال : بلى، قلت : فكيف وجده؟، قال : وجده صابرا شاكرا حامدا!!، قلت : لم يرض منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه ؟، قال : نعم، قلت : فكيف وجده ربه ؟، قال : وجده صابرا شاكرا حامدا!!، قلت : فلم يرض منه بذلك حتى صيره عرضا لمار الطريق، هل علمت ذلك ؟، قال : نعم، قلت : فكيف وجده ربه ؟، قال : صابرا شاكرا حامدا!! ، أوجز رحمك الله !! قلت له : إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل، وقد افترسه سبع فأكل لحمه ؛ فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، فقال المبتلى : الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقا يعصيه فيعذبه بالنار . ثم استرجع وشهق شهقة فمات . فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون، عظمت مصيبتي في رجل مثل هذا، إن تركته أكلته السباع، وإن قعدت لم أقدر له على ضر ولا نفع، فسجيته بشملة كانت عليه، وقعدت عند رأسه باكيا، فبينما أنا قاعد إذ جاء أربعة رجال فقالوا : يا عبد الله، ما حالك ؟ وما قصتك ؟، فقصصت عليهم قصتي وقصته، فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه ؛ فعسى أن نعرفه. فكشفت عن وجهه، فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مرة ويديه أخرى –أي ما بقي من يديه-، ويقولون : بأبي عين طالما غضت عن محارم الله، وبأبي جسم طالما كنت ساجدا والناس نيام، فقلت : من هذا يرحمكم الله ؟ فقالوا : هذا أبو قلابه الجرمي صاحب ابن عباس رضي الله عنه، لقد كان شديد الحب لله وللنبي -صلى الله عليه وسلم- .  فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا، وصلينا عليه ودفناه، فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي، فلما أن جن علي الليل وضعت رأسي، فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة وعليه حلتان من حلل الجنة، وهو يتلو الوحي : { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } ( الرعد : 24 )، فقلت : ألست بصاحبي ؟، قال : بلى، قلت : أنى لك هذا ؟، قال : إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، مع خشية الله عز وجل في السر والعلانية  .

كان ذلك طرفا من أخبار من سبقنا، ولم يخل هذا العصر من نماذج مشرقة ومواقف مبهرة من المعاصرين، والخير في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره.

فهذه أم فهد التي فقدت أطفالها الأربعة جملة واحدة، وأمام ناظريها، في حريق اندلع وأحرق بيتها، فما وهنت ولا ضعفت، بل كانت أنموذجا رائعا يحتذى به في الرضا والتسليم، حتى إنها تجاوزت محنتها سريعا وأشغلت نفسها بتعلم العلم الشرعي وتعليمه، ولم تمر الأيام والليالي حتى عوضها الله عن مصابها بطفلة جميلة كانت لها قرة عين.

وهذا الداعية عبدالله بانعمة، والذي أصيب في شبابه بكسر في الرقبة مما أحدث له شللا رباعيا، وكانت هذه الحادثة سببا في هدايته وعودته إلى الله، وطالما تنقل في أرجاء المعمورة ليدعو إخوانه الشباب ويذكرهم بنعم الله عليهم وما يتطلبه ذلك من شكره وذكره وحسن عبادته، وفي كلامه عذوبة ومشاعر صادقة أثرت في العديد من الناس وكانت سببا في توبتهم وأوبتهم.

وتروي الأخبار قصة امرأة من غزة، ذهبت إلى الكشف عند الطبيب فأخبرها بأن النتائج تؤكد أنها عقيم، فرضيت بما قسمه الله لها، ولم يداخلها اليأس من رحمة الله، وبعد مرور ستة وعشرين سنة خضعت لعملية جراحية بمركز للعقم لترزق بعد ذلك بمولودها الأول.

وأصيبت إحدى النساء بمصاب أليم في أحد أبنائها –وقد شغفت به حبا- فما زادت على قولها: الحمد لله على السراء والضراء، والعافية والبلاء، والله ما أحب تأخير ما عجل الله، ولا تعجيل ما أخره الله، وكل ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير.
والأعجب من هذا ما ذكره الدكتور أحمد حازم المستشار الطبي: "أعرف مريضة مسنة عمرها أربعة وستون عاما وعندها سكري، وبدانة، ومرض قلب، ومرض كلية، وحصاة كلوية بحجم الكلية، أدى إلى استئصال إحدى الكليتين عندها، وعندها فرط الدهون في الدم، وضعف شديد في البصر، أي ما يقارب 2على 6 في عين، والأخرى لا ترى بها، وأضافت إلى جملة هذه الأمراض صدفية شديدة منتشرة على الجذع والأطراف، وحكة شديدة لا تسيطر عليها العلاجات، كما أنها تعاني من سرطان الثدي، وتم استئصال أحد الثديين استئصالا كبيرا مع العضلة التي في الصدر وشكل صدرها يبدو الآن مثلثا بدل الشكل الاسطواني، وهي أيضا أرملة، ومتغربة عن أهلها، تسكن عند أناس استضافوها رأفة بها، وبالرغم من كل ما سبق تبتسم وتقول: الحمد لله، وتكرر قولتها المشهورة: الحمد لله فالنعم التي بقيت أكثر من النعم التي خسرناها".

ولنا في أمهات الشهداء في أرض الإسراء خير مثال على حقيقة الصبر والرضا، ولا زلن يقدمن الشهداء واحدا تلو الآخر بنفوس مطمئنة، وقلوب راضية.

إن أمثال هذه المواقف الرائعة أثرت في أمم الشرق والغرب وكانت مثار إعجابهم وموضع دهشتهم، وبذلك صرحوا وشهدوا –والحق ما شهدت به الأعداء- حتى قال أحدهم: " وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق؛ فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر، قد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأخذ الحياة مأخذا سهلا هينا، فهم لا يتعجلون أمرا، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقا على أمر، وما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة ".  

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة