- اسم الكاتب:د. غيث بن مبارك الكواري ـ وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر
- التصنيف:ثقافة و فكر
في ورقة عمل شدد سعادة الدكتور غيث بن مبارك الكواري وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية على أن الدين الإسلامي هو المكون الأول لهويتنا والعمود الفقري لشخصيتنا، مبينا أن الدين واللغة هما عنصران أساسيان ومكونان بارزان للهوية.
— الدين الإسلامي المكون الأول لهويتنا العربية والعمود الفقري لشخصيتنا القطرية.
— الحفاظ على هويتنا لا يعني الإبقاء على الأشكال والوسائل التي من شأنها التغيير.
— الفقه الصحيح لا يبنى على ما قال الشرع فقط بل على ماذا أراد الشرع.
— كم من أمم وأشخاص يجرون خلف ما يظنونه مصالح منمقة وهي مفاسد محققة.
— التطرف بوجهيه والغلو بنوعيه يشكل أكبر تهديد للهوية والوسط طوق نجاة.
— اللغة العربية تمثل لسان هويتنا والتواصل مع أهلنا ولغة الحوار مع أمتنا.
— الاختلاط بين الأجناس محتم وتحصين الهوية دينيا يجعلها صلبة عن الذوبان.
— العقليات الجامدة على القديم من أخطر المهددات للهوية وإن بدا أنها تدافع عنها.
— أوروبا ظلت نائمة عن أرسطو وفكره قرونا حتى نفض غباره ابن رشد.
وقال د. الكواري في ورقة عمل حول دور وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وإسهامها من موقعها في إثراء ملف الهوية: إن هناك قاسما مشتركا ومكونا موحدا للهوية هو الوطن ليكون مع الدين واللغة العربية الضلع الثالث في مثلث هويتنا في قطر.
وأوضح وزير الأوقاف أن الحفاظ على هويتنا لا يعني الإبقاء على الأشكال والوسائل التي من شأنها التغيير، فالتجديد باستمرار هو المنهج الرشيد والفقه السديد في حياة الأمة.
ونبه سعادة الوزير إلى أن الفقه الصحيح لا يبنى على ما قال الشرع فقط بل على ماذا أراد الشرع، مشيرا إلى أهمية معرفة فقه المصالح والمفاسد، إذ كم من أمم وأشخاص يجرون خلف ما يظنونه مصالح منمقة وهي مفاسد محققة.
وحذر الدكتور الكواري من التطرف بوجهيه والغلو بنوعيه، مؤكدا أنه يشكل أكبر تهديد للهوية، فيما المنهج الوسط بين التفريط والإفراط هو طوق نجاة.
ونوه بالمكانة التي تمثلها اللغة العربية في المجتمع القطري، مشيرا إلى أنها تمثل لسان هويتنا ووسيلة التواصل مع أهلنا في البلاد العربية ولغة الحوار مع أمتنا العربية والإسلامية.
وقال د. الكواري إن التداخل والاختلاط بين الأجناس بات سمة من سمات العصر، وبما أن المادة حين تختلط بغيرها من المواد تفقد كثيرا أو قليلا من هويتها وطبيعتها، فإن تحصين الهوية دينيا يجعلها صلبة عن الذوبان.
وقدم د. الكواري لمحة عن إسهامات المسلمين في الحضارة من خلال تلميذ الإسلام ابن رشد الذي نفض الغبار عن فكر أرسطو الذي ظلت أوروبا قرونا لا تعرف عنه شيئا.
وقال د.غيث الكواري إنه من خلال ورقة اللقاء التشاوري حول الهوية، يبرز عنصران أساسيان ومكونان بارزان للهوية، هما اللغة والدين. وهذان العنصران قاسم مشترك ومكون موحد للهوية في سائر أنحاء العالم العربي، ويضاف عنصر خاص هو الوطن ليكون مع الدين والعربية الضلع الثالث في مثلث هويتنا في قطر.
ومن ثم تسهم وزارة الأوقاف بدورها من موقعها في إثراء ملف الهوية.
أ- الدين الإسلامي أساس الهوية
لا أحسب أحدا يجادل في هذا البلد، بل ولا في بلدنا العربي والإسلامي، أن الإسلام يعتبر العمود الفقري لشخصيتنا، وأساس هويتنا. وهذا من الثوابت التي امتزجت بها الجينات الشخصية لنا، وجرت مجرى الدم في أبداننا، لا أقول منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بل منذ خلق الله الإنسان على وجه المعمورة، باعتبار إيماننا بجميع الأنبياء والمرسلين، فكلهم أتى بالإسلام الدين من عند رب العاملين، فنحن مخاطبون بقوله تعالى:( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) البقرة/136. ونحن مؤمنون بقوله عز وجل: (إن الدين عند الله الإسلام) آل عمران/19.
إذا نحن في هذا البلد وفي سائر أنحاء البلاد الإسلامية معتزون ومفتخرون بهذا الركن الركين من هويتنا، معتزون من دون غرور، ومفتخرون بتواضع لرب غفور.
2 - أمانة نقل الهوية
من هنا، فمن البديهيات التذكير بأهمية الحفاظ على الهوية، وهي الأمانة التي تسلمها الآباء من الأجداد، وينقلها الآباء إلى الأحفاد، كما هو حال التوارث الذي تسعى فيه كل الأمم والمجتمعات — فكلها تسعى طمعا لاستمرارها، وإبقاء لمعالم شخصيتها — الى غرس هويتها في الأجيال من بعدها.
• معالم هويتنا الدينية
إن العنصر الأساس والمكون الأول لهويتنا هو الدين الإسلامي الحنيف، وحيث إننا معشر القطريين مع أمتنا العربية الإسلامية لا نناقش هذا، فلابد من الإشارة إلى بعض المعالم الأساسية التي ترسم الخطوط الكبرى لدين الإسلام، وذلك بنوع من الاختصار بما يتسع له المقام.
1 — (المعلم الأول) الثوابت والمتغيرات
عرفنا أن الإسلام هو أساس هويتنا، وآمنا أنه دين صالح لكل زمان ومكان، فينبغي أن نعلم أيضا أنه ما كان ليكون كذلك لولا أن فيه ثوابت وفيه متغيرات، ثوابت يحكمها قوله عليه الصلاة والسلام من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد، ومتغيرات تسير وفق إرشاده صلى الله عليه وسلم:أنتم أعلم بأمور دنياكم، والغفلة عن التمييز بين الثوابت والمتغيرات، وعدم التفريق بين المستقرات والمستجدات، يعرض تديننا للأخطار، وحياتنا للتخلف والتلف، وأحوالنا للغير والأكدار.
ومن هنا فلا ينبغي فهم الحفاظ على هويتنا بما يعني الإبقاء على الأشكال والوسائل التي من شأنها التغيير، كما لا يعني طمس الثوابت والأسس التي من طبيعتها الرسوخ والبقاء، فالتجديد باستمرار هو المنهج الرشيد والفقه السديد. وأي اختلال في هذه المعادلة التي تثبت الثابت وتصونه، وتنمي المتغير وتطوره، مضر بالهوية الدينية، سواء من قبل من يريد تغيير كل شيء فيها، أو من قبل من يريد الجمود على كل جزء منها، فهذان الفريقان على ما يبدو بينهما من بعد في المنطلقات، ومن تعارض وتضاد في الاتجاهات، هما يلتقيان في تعريض الهوية إلى المخاطر والهلكات.
2 — (المعلم الثاني) مراعاة مقاصد الشريعة
إن الأمم والمجتمعات لا تسير في دنيا مفروشة بالورود، ولا تكون دائما في مناخ خال من العقبات الكؤود، وبالتالي لا تستطيع أن تترجم كل ما تتبناه وتراه، ولا كل ما تحبه وترضاه، ولا تبني كل ما تخططه وترسمه، عندها لابد لها من التقديم والتأخير، أي تكون في حاجة إلى البدء بأمور، وتأجيل أخرى، ولهذا فلابد لها في مقام الهوية من مراعاة مقاصد الشريعة، لنميز بها بين المهم والأهم، ونفرق بين المقاصد والأهداف من جهة، وبين الوسائل والأسباب من جهة أخرى.
إن الفقه الصحيح ليس الذي يبنى على ما قاله الشرع كما يظن كثير من الناس، لاسيما من أهل الظاهر، ولكن يبنى على ما أراد الشرع! وشتان بين ما قال وما أراد. ومن ثم تتجلى خطورة العلم بمقاصد الشريعة.
3 — (المعلم الثالث) فقه المصالح والمفاسد
إن معرفة المصالح التي ينبغي جلبها، والمفاسد التي يجب درؤها، وإن كان من صميم المقاصد الشرعية، وجزءا لا يتجزأ منها، غير أن التركيز على فقه المصالح والمفاسد ينمي ثقافة مجتمعية تعرف أبناء المجتمع بمختلف مستوياتهم، وعلى قدر حاجاتهم، تعرفهم جميعا بقيمة وأهمية ومراعاة هذا الفهم للمصالح والمفاسد.
وحين يرد الكلام عن المصالح والمفاسد فقد يظن ظان أن مثل هذه المسائل من بديهيات العناوين، ومعروفة لدى المسلمين بل عند جميع العالمين! كلا! فكم من أمم وأشخاص يجرون خلف مصالح تتراءى لهم، ثم سرعان ما يتبين في النهاية أنها سراب لا ماء فيه، وأن تلك المصالح الموهومة المنمقة ما هي سوى مفاسد محققة.
فلابد إذا من ثقافة تعرفنا كيف نميز بين المصلحة المحققة والمصلحة المزيفة، بل تعلمنا كيف نقدم أولى المصلحتين، ونتجنب أسوأ المفسدتين.
4 — (المعلم الرابع)الوسطية والاعتدال
إن التطرف بوجهيه والغلو بنوعيه يشكل أكبر تهديد للهوية، وكما قال العلامة أحمد بن خالد الناصري — صاحب كتاب الاستقصا في تاريخ المغرب الأقصى — إنه من أمعن نظره في نصوص الشريعة من الكتاب والسنة، علم يقينا أن طريق النجاة إنما هي سلوك الوسط، وإن كلا من التعمق والانحلال ضلال! وهذا الذي قاله ينطبق على دين الإسلام وينطبق على سائر الأديان، ولهذا يضيف الناصري قائلا إن المحمود في أمور الديانات كلها، إنما هو سلوك الوسط بين الإفراط والتفريط، وبه يتم مراد الله من خلقه، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
وصدق رحمه الله تعالى! فكم جنى الغلاة بقسميهما — المتعمقون والمنحلون، أو المفرطون والمفرطون — على هويات، فمسخت ثم ضعفت حتى أصبحت أثرا بعد عين!!.
ب — اللغة العربية لسان الهوية
وباعتبارنا جزءا من أمة عربية، فإن اللغة العربية تمثل لسان التواصل مع أهلنا، ولغة الحوار مع أمتنا، ولو لم يكن سوى هذا لوجب العناية باللغة غاية العناية، فكيف واللغة العربية هي لغة القرآن والسنة، وبعبارة أخرى هي لسان هويتنا، والمتكلم الذي به أتى شرعنا فقال تعالى في سورة يوسف: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) يوسف/2، وبهذا الوصف العربي ذكر القرآن في عدد من الآيات، ووصف لسانه ولسان من نزل عليه الوحي بأنه عربي في أكثر من آية.
فاللغة العربية هي ركن من هويتنا ولسان ناطق عن هويتنا، ولذلك قال بعض علمائنا: من تكلم في الشريعة بغير اللغة العربية تكلم بلسان قصير.
2 — التحديات التي تواجه الهوية
وأما بخصوص التحديات التي تعترض الهوية، فلها أسباب كثيرة، بعضها خارجي وبعضها داخلي.
1 - بعض العوامل الخارجية
أ — القرية الصغيرة عالمنا اليوم
مما هو واضح ومعلوم اليوم، أن التداخل والاختلاط بين الأجناس بات سمة من سمات العصر، وبما أن المادة حين تختلط بغيرها من المواد تفقد كثيرا أو قليلا من هويتها وطبيعتها، فكذلك الشأن بالنسبة للهويات والأفكار، ينتج عن اختلاطها وامتزاجها تغيير كبير أو صغير على هوياتها، ويقل ويكثر التغيير حسب المادة واستعصائها على الذوبان!! وكذلك الشأن في الهويات المختلطة، فتذوب الهويات الرخوة وتبقى وتصمد الهويات الصلبة المحصنة ضد الذوبان.
والعالم اليوم قرية صغيرة، ولهذا منع أسلافنا — حفاظا منهم على الهوية — الاختلاط بالأجناس، ووضعوا أبوابا فقهية تتعلق بمنع السفر لبلاد غير إسلامية، وشددوا الأحكام في ذلك غاية التشديد، وما كان ذلك منهم رحمة الله عليهم إلا إدراكا لخطر الاختلاط على الهوية.
وقد كان هذا الحل والمخرج الذي ارتضاه السلف — منع السفر للبلاد غير الإسلامية — سببا ولم يكن غاية وهدفا، كان سببا من الأسباب ووسيلة من الوسائل، وأما الغرض والمقصد فكان الحفاظ على الهوية.
ومن هنا فإن الذي لا يميز بين الثابت والمتغير، ولا يفرق بين المظهر والمخبر، يحرص على وسائل السلف فيعرض هويته للتلف، لأن بعض وسائل السلف لم تعد مناسبة اليوم، لتحقيق الغرض الذي قصده السلف، وذلك بسبب ما حصل من تطور هائل في مجال التواصل، فمن ينغلق على نفسه ويتقوقع حولها لا يستيقظ إلا وقد دخل عليه من هذا الباب ما يضيع هوية أبنائه وهم في بيوتهم، دون حاجة إلى جواز سفر يخرجه لهم، لأنهم بسبب العولمة اختلطوا مع الآخرين بأفكارهم وثقافاتهم دون أن يغادروا قعر بيوتهم.
ب — ثورة الاتصال
وإذا كانت العولمة قربت التداخل والاختلاط بين الشعوب بالأنفس، فإن وسائل الاتصال التي عرفت ثورة هائلة قوت ودعمت هذا الامتزاج دونما حاجة إلى اللقاء المباشر، وأصبحت الشعوب كما لو أنها في مجلس واحد، أمام شاشة واحدة تبث منها كل الأفكار، وتنشر منها سائر المعتقدات.
2 — بعض العوامل الداخلية
— الجامدون على المتغيرات
ومن العوامل الداخلية التي تهدد الهوية ذوو العقليات الجامدة على القديم، والنافرة والمنفرة من كل جديد وتجديد. فهذه العقلية وإن بدا أنها تدافع عن الهوية، فهي من أخطر المهددين لها! فهي لا تنظر إلى الهوية من زاوية مقاصد الشريعة، ولكن من نسخة من نسخ الشريعة التاريخية!!.
ومن أخطر أسلحتها التي تستعملها لتحرم الأمة من كل خير نافع، تسليط عصا التحريم والتنفير وأحيانا التكفير!! فاستعمال وسائل اخترعها الغرب حرام، والمحاورة مع الغرب حرام! والسفر لبلاد الغرب حرام! بل كفر وإجرام!! بل تجد من هذا الفريق من يوبخ من تكلم بلغة غير اللغة العربية، ويقاطع لغات الشعوب كما لو كانت تلك اللغات من النجاسات المحرمة، لا من مخلوقات الله المكرمة!! التي يقول عز وجل فيها: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) الروم/22. فاحتقار الألسن والألوان من جنس احتقار ما جعله الله تعالى آيات، مثل خلق الأرض والسماوات.
وهذا رسولنا الكريم الذي أوتي جوامع كلم اللسان العربي، كسا صحابية صغيرة ثوبا ورد عليه، فأراد مداعبتها فقال: يا أم خالد هذا سنا. و"سنا" بلغة الحبشة معناه حسن، فخاطبها النبي عليه السلام بلغة الحبشة حيث إنها كانت مهاجرة مع أسرتها إلى الحبشة فعادت، فطيب الرسول خاطرها بلغة تفهمها، ولم ير أن التكلم معها — مع صغرها — بغير اللغة العربية مزعزعا للهوية اللغوية لديها.
إن الفئة الجامدة على ما هي عليه، والخائفة من كل شيء حولها، والتي تعيش منغلقة على نفسها، لا يتسرب إليها من الثقافات الأخرى ماء ولا هواء، لا تلبث حتى تختنق وتذهب هويتها حين تفقد مقومات بقائها، وعناصر حياتها.
بينما من ينظر إلى الأمور بمقاصد الشريعة، ويتذكر "أنتم أعلم بأمور دنياكم" فإنه يفرق بين ما يستحق أن يستفاد منه، وما لا يستحق! فيعلم أن العلم مثلا سبب من أسباب تحسين مصالح الأنام، فيسعى لتحصيله، وينافس على الاغتراف منه! وفي المقابل يرى محدثات كثيرة لا تستحق أن ينشغل بها على جدتها وحداثتها.
— المفرطون في الثوابت
وإذا كان هذا الفريق الجامد مهددا للهوية ويعرضها بسبب جموده للبلاء ومن ثم للفناء، فثم فريق آخر يقابل هؤلاء المنغلقين المفرطين في ثوابت الهوية، الذين يريدون تجديد كل شيء!! فيضيع كل ما عنده من أشياء، حتى لا يبقى له من عناصر ومقومات الهوية سوى الأسماء!!.
وبينما الفريق الأول ينفر وينفر من كل جديد، فهذا الفريق ينفر وينفر من كل قديم، وكما قال أحد فرسان البيان في هذا العصر، مصطفى صادق الرافعي "أراد هؤلاء تجديد كل شيء بما في ذلك الشمس والقمر"!!.
— الوسطية دواء
والدواء كل الدواء في التوسط بين هؤلاء وهؤلاء، فالتحصين للهوية يتم من خلال تثبيت كل ثابت، وتطوير أو تغيير كل ما من شأنه التغيير. فالقيم مثل الصدق والعفة والأمانة لا يفرط فيها وهي لا تعاب لقدمها!! والتلاعب بالأجنة والعبث بالإنسانية وتهديد البشرية باختراع الأسلحة الفتاكة المدمرة كلها وسائل جديدة ولكنها عدوة للإنسانية وخطر على البشرية ولكنها مذمومة لا تمدح على حداثتها وجدتها!!.
3 — آليات تعزيز الهوية
أ — من الناحية الدينية
إذا أمام هذا الواقع تتجلى أهمية العناصر التي تم التأكيد عليها كمعالم للهوية الدينية (مقاصد الشريعة،الثوابت والمتغيرات فيها، فقه المصالح والمفاسد، الوسطية)، وبالتالي فهي مدعمات ومقويات للهوية، تقويها لا بالهروب من الاختلاط بالثقافات والديانات الأخرى كما كان مناسبا في فترة ما، ولم يعد ممكنا في زماننا، بل بتحصين الهوية من الناحية الدينية، لتكون مستعصية على المسخ، وصلبة عن الذوبان.
ولذلك نسرد بعض النقاط التي تجلي هذه الحصانة وتبين قيمتها:
1 — من مقاصد الشريعة التعارف مع الشعوب لا الهروب منها
من الحقائق التي قررها القرآن الكريم بكل وضوح، وبينها بكل جلاء، أن التعارف بين الشعوب مقصد من المقاصد الشرعية، يقول تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات/13.
وما كان الشرع ليجعل أمرا ما مقصدا، ثم يكون فيه ضرر على هويتنا. إننا حين نعمل على تحصين هويتنا، فلا يضرها احتكاكها بهويات الآخرين، بل نسعى لتحقيق هذا المقصد الشرعي ونحتك بباقي الشعوب، ونتحقق أنه لا يزيدنا ذلك الاحتكاك سوى مزيد اعتزاز ومزيد فخر بهويتنا. ونفس الوسائل التي يتيحها العصر من وسائل الاتصال يمكننا توظيفها واستمرارها للعمل على تحصين هويتنا من الضعف أو الذوبان.
2 — السلف والاحتكاك بأفكار وهويات أخرى
والذي يرى سيرة السلف يقف على نماذج لامعة وحقائق ساطعة، تعكس الجهود التي بذلت للاطلاع على ما عند الآخرين!! بل إن ترجمة تراث الحضارات المختلفة، وصهره واستثماره والاستفادة منه قوى جانب الهوية عند سلفنا.
ثم إن السلف لم يقفوا عند حد الاستفادة، بل استفادوا وأفادوا، وليس شيء ما يمنع من تكرار هذا التلاقح من جديد، واستثمار كل نافع ومفيد.
فأرسطو مع أنه ابن أوروبا منذ ماضيها التليد، ظلت غافلة عنه وذاهلة عن تراثه حتى تعرفت على فكره من قلم تلميذ الإسلام ابن رشد الحفيد، الذي نفض عن فكر أرسطو الغبار، وشرح كتبه وما حوته من أفكار، فرفعت أوروبا بأرسطو رأسها وزهت به بعدها، بعدما كانت نائمة عن أرسطو وفكره قرون قبلها. فما الذي يمنع من مثل هذا اليوم!؟
3 — فقه المصالح والمفاسد
كما تمت الإشارة قبل فإن الأمم والشعوب لا تكون دائما وأبدا على حالة واحدة من الرقي والتطور، وتعتورها سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير، (وتلك الأيام نداولها بين الناس) آل عمران/140.
وإذا كانت الأمة في حاجة إلى فقه المصالح والمفاسد إبان عزها وعلوها، فهي أحوج إليه حال ضعفها وتقهقرها، لأن الجسم العليل والجسد السقيم أكثر تأثرا بالأمراض، وأضعف عند الصدمات من الجسم القوي السليم!!.
وفي أحوال من ضعف الأمة الإسلامية أيام استحكام قبضة جيش التتار على جزء كبير منها، مر جماعة من العلماء وطلبة العلم على مجلس فيه بعض جند التتار الحاكمين وهم يقارعون الخمور! فصرخ أولئك العلماء وطلبة العلم في وجوه التتار وقرعوهم بسبب فعلهم! فانبرى شيخ الإسلام بالنكير عليهم!! لم ينكر على التتار! ولكن أنكر على العلماء الذين أنكروا عليهم تعاطيهم لشرب الخمر، فقال لهم: دعوهم! فإنما حرمت الخمر لصدها عن الصلاة وعن ذكر الله!! أما هؤلاء فتصرفهم عن دماء المسلمين!!.
لقد أعمل شيخ الإسلام هذا الفقه؛ فقه تقدير المصالح والمفاسد!! فلم يكتف بعدم إنكاره على من يشربون الخمر، ولكنه أنكر على الذين أنكروا على التتار شرب الخمر! لماذا!؟ لأن صون دماء المسلمين مقدم على عدم شرب الخمر! هما مفسدتان! ولكن إحداهما أعظم من الأخرى!!.
وفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد هذا مقرر في الكتاب والسنة، فقد قال تعالى:(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) الأنعام/108.
فسب الأصنام مصلحة تترتب عليها غالبا مفسدة سب الله تعالى، ومن ثم فلتفوت تلك المصلحة؛ مصلحة سب الآلهة المزيفة كي لا يعبدها الناس، درءا لهذه المفسدة، مفسدة سب رب الناس!!.
ومن هذا الفقه المصلحي من السنة ما حصل لما سب أحد المنافقين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن بعض الصحابة — بمن فيهم ابن ذلك المنافق — في قتله! فقال عليه الصلاة والسلام:دعه! لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. وهذا إعمال لفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى حياة الدعوة فوق الأرض، فرآها أولى بالاعتبار من دفن شخص منافق في فلاة تحت الأرض!! لأنه إذا تحدث الناس أن صاحب الدعوة يقتل أصحابه، فمن يقبل على دعوة تقتل أبناءها!!.
ولو علم بعض أبنائنا اليوم أن فقههم الذي لا يراعون فيه هذا المعنى، كم يجنون بذلك على أنفسهم، وعلى أسرهم، وعلى أمتهم، بل وعلى دعوة الإسلام برمتها!!.
هذه خطوط ومعالم بين يدي القارئ، أحببت الإسهام بها حسب الاستطاعة، كخطوة في طريق خطاب ديني جديد، ثابت في ثوابت الشريعة، ولين في متغيراتها، يأخذ بعين الاعتبار مقاصد العزيز الغفار، ويراعي المصالح والمفاسد في الاختيار، ويقدم الأولويات آخذا بعين النظر المآلات، فما كان فيه من الصواب فمن الله تعالى، وما كان خلاف ذلك فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله وجزاكم الله تعالى خيرا (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) التوبة/105.