- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:ثقافة و فكر
احتل الفقيه مكانة عالية يعرفها كل من يستقرئ التاريخ الإسلامي من جميع جوانبه (السياسية أو الاجتماعية أو العلمية أو الاقتصادية)؛ فهو يستند إلى تاريخ طويل كان فيه صاحب الكلمة الأولى في المجال العلمي، كما كان المرجع في الملمات والقضايا كبيرها وصغيرها، ويحتاج إليه الناس على اختلاف مستوياتهم في قضاياهم العامة والأشد خصوصية، حتى القرارات الكبرى كانت تصبغ بفتوى الفقيه؛ لذلك حملت لنا الفتاوى تاريخا مفصلا عن واقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية في التاريخ الإسلامي في كافة مراحله مما لم يستطع التاريخ المدون حمله.
لكن هل بدأت هذه المكانة تتقلص وتضيق مساحتها في هذا العصر تاركة الأمر لشخصيات أخرى: كشخصية المثقف أو المفكر؟
الواقع أن شخصية الفقيه لم تخل من المقابل أو المضاد أو المخالف، أو من له منهجية فكرية مغايرة لمنهجية الفقيه.
فعندما ننظر في عهد التابعين وأتباعهم نجد المقابلة بين الفقهاء والمحدثين، أو أهل الأثر وأهل النظر، أو مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث، وقد كان الحجاز مستقر مدرسة أهل الحديث (أهل الأثر)، والعراق مستقر مدرسة الفقهاء (أصحاب الرأي)؛ ولعل السبب في ذلك وفرة المرويات الحديثية في الحجاز بسبب كثرة الصحابة فيه، وقلة الأحاديث بالعراق حتى اضطـروا - في بعـض القضـايا التي لم يجدوا فيها نصوصا - لاستعمال القياس، حتى جاء الإمام الشافعي فدرس على المدرستين ووجد أن عند كل منهما مزايا ليست عند الأخرى، ومن واقع هذه الرؤية ألف أول كتاب في أصول الفقه، وهو (الرسالة).
فالتقابل هنا تقابل تنوع وليس تقابل تضاد؛ فكلا المدرستين تجعل نصوص الكتاب والسنة مصدرين أساسيين، كما تتفقان في عدد كبير من القضايا الأصولية.
كما حصل تقابل بين الفقيه والصوفي، وقد اشتمل هذا التقابل على تضاد وتنوع في آن واحد. والصوفية الذين حصل بينهم وبين الفقهاء تضاد هم الذين اعتمدوا مصادر غير المصادر الشرعية التي يعتمدها الفقهاء؛ فهم يعتمدون على الذوق والرؤى والوجد مصادر تشريعية. كما حصل الخلاف بين الفريقين في معالجة قضايا المجتمع؛ فبينما يرى الصوفية أن الحل في التزهد المطلق، وترك الانغماس في حياة الناس ومشكلاتهم، والانعزال النفسي والبدني قدر المستطاع، تأتي معـالجـة الفقهـاء مختلفـة؛ حيث يفسـرون الزهـد تفسـيرا لا يخرج الإنسان عن معاركة الحياة والخوض فيها، ويجعلونه مراتب، لكن حتى أعلاها لا يخرج الإنسان عن العيش مع البشر والتعامل بتعاملاتهم، ثم تنصب معالجة الفقهاء على تصحيح التعاملات الخاطئة في حياة الناس، وبيان أحكام الشرع فيها.
فهل حصل اختلاف في هذا الزمان؟ وهل ضعف دور الفقيه وقل تأثيره؟ هل تغير الزمان لدرجة أن الفقيه بما يملك من أدوات معرفية لم يعد قادرا على مواجهة المستجدات والمتغيرات، وهو ما يعني الحاجة لوجود شخصيات أخرى قادرة على استيعاب المتغيرات؟
إن غربة الفقيه من غربة الدين في حياة الناس؛ فعلى قدر قربهم من الدين أو بعدهم عنه ترتفع أو تنخفض منزلة الفقيه لديهم.
لا شك أننا نعيش في واقع معقد متداخل متشابك، وقد حدثت فيه تطورات فكرية وفلسفية وعقائدية بصورة لم تعهدها الأمة من قبل، تزامنت مع وجود الاستعمار الذي أنهك الأمة وجزأها واستهلك ثرواتها وزرع فيها من الفتن ما زرع قبل رحيله، وهو ما ولد أسئلة وإشكالات طرحت بلغة مغايرة لما كان معروفا في الطرح العلمي أو الثقافي لدى المجتمعات الإسلامية، وهي إشكالات ونقاشات شاملة للتصورات والأفكار، متغلغلـة حتى في التكـوين الفكـري والعقائدي لحامليها، وهو ما جعلهم يسعون لطرح مخالف للإسلام، بل يحملون على الإسلام حملة نكراء تدعو لإقصائه من حياة الناس، وإحلال إحدى الأيديولوجيات الشائعة مكانه، وهو ما ولد الحاجة لوجود مفكر تكون مرجعيته إسلامية من جهة، ويكون لديه استيعاب للصراعات الفكرية الحادثة وإلمام بمصطلحاتها وإدراك للغتها وأساليب نقاشها من جهة أخرى، فوجد لدينا مفكر إسلامي كما وجد كذلك - نتيجة للتأثر بالتيارات العالمية - مفكر اشتراكي أو مفكر قومي، وكان كل يطرح آراءه تبعا لخلفيته الفكرية ومرجعيته الثقافية.
فكان الاشتراكي - مثلا - يبشر بالاشتراكية داعيا الناس لاتباعها؛ فهي الجنة الموعوده على الأرض، وفي الوقت ذاته لا يكف عن مهاجمة الإسلام وكيل التهم الباطلة إليه، بينما كان المفكر الإسلامي يقف في وجه هذه التهم يفندها ويناقش أصحابها ويبين عوار كلامهم. وربما تأثر بعض الناس بشيء من تلك الجدالات، فتبنى وجهة نظر اشتراكية أو غيرها وهو لا يشعر، وهذه طبيعة الجدال؛ فقد يتبنى المرء بعض أقوال خصمه؛ لأنه يقترب منها كثيرا وقت النقاش فيتلبس بها وهو لا يشعر.
فكان المفكرون الذين ينتمون لهذه الأيديولوجيات المخالفة يهاجمون الفقهاء ضمن خطة هجومهم على الإسلام، وعدائهم لهم ضمن عدائهم للدين؛ ففي القضاء على شخص الفقيه إضعاف للدين، وكيف يعرف الناس دينهم إذا لم يكن بينهم فقهاء؟ وقتها تلبس أي قضية لبوس الدين وتقدم للناس على أنها من دينهم فيأخذون بها وهم لا يشعرون.
حتى المفكر الإسلامي لم يسلم منه الفقيه، مع أن علاقتهما ينبغي أن تكون علاقة تكامل لا تضاد؛ فكل يعمل في حقله، والمحصلة النهائية خدمة هذا الدين، ولا أعمم القول على جميع المفكرين الإسلاميين؛ فهناك أفراد منهم هاجموا الفقهاء، وقد غالى بعضهم في هجومه؛ فجعل عقلية الفقهاء ومنهجيتهم هي السبب الأكبر في تخلف الأمة؛ ولذلك لا مخرج للأمة إلا بتغيير هذه العقلية ومنهجيتها في التفكير، ومنهم من كان أقل حدة لكنه اتهم الفقهاء بالبعد عن قضايا الأمة المفصلية والعكوف على قضايا جزئية؛ حتى وصفوا الفقهاء بأنهم علماء الحيض والنفاس، وأنهم بعيدون كل البعد عن قضايا العصر.
وقد كان سبب هذا الهجوم تأثر بعض المفكرين الإسلاميين بالجدالات مع المخالفين، وانغماس بعضهم في القضايا الفكرية حتى يراها كل شيء، بينما غيرها يكون هامشيا من وجهة نظره، حتى كانت لبعضهم آراء غريبة حول تجديد الفقيه وتكوينه.
إن تبادل الأدوار والتكامل بين المفكر والفقيه هو المطلب الـملح لمعالجة مشكلات الواقع المعقدة المتشابكة، ولكن من يستطيع فهم هذا أو استيعابه.
ينبغي لكل منهما أن يتوجه لدائرة اختصاصه التي يتقن علاجها؛ فإذا تداخـلت الدائرتان عـرفا بحنكة كيف يديران هذه المنطقة المشتركة بينهما، وأيهما أولى بأن يبدي رأيه فيها إن احتـاج لـرأي واحد، أو يبـدياه سويا بدون تضـاد بينهمـا ما استطاعا إلى ذلك سبيلا.
وقد يقال: ألا يمكن تقابلهما في مناطق مشتركة، أم أنهما على طرفي نقيض لا يمكن أن يلتقيا أصلا؟
أو يقال: ألا يمكن أن يكون المفكر فقيها أو الفقيه مفكرا فيكون تناول القضايا يحمل البعدين فيزول الإشكال؟
الحقيقة أن الفقيه يختلف عن المفكر من حيث أدواته المنهجية وتكوينه المعرفي؛ فالفقيه مأخوذ من الفقه الذي هو مصطلح شرعي بالأساس وقد أخذ هذا اللقب لكونه مبينا للأحكام موضحا للحلال والحرام؛ فوظيفته بيان حكم الشريعة على المسائل النازلة بالناس والحوادث الطارئة فيهم، حتى سماه ابن القيم موقعا عن رب العالمين، ولنرجع لشروط المجتهد الذي يمثل الذروة في المرتبة الفقهية لنعرف التكوين المعرفي لدى الفقيه فإننا سنجد أن الأساس والأصل والأهم في ذلك هو علمه بالكتاب والسنة، وحتى العلوم الأخرى المطلوب من الفقيه تحصيلها؛ إنما الغرض منها فهم الكتاب والسنة كعلوم اللغة وأصول الفقه، وغيرها.
ثم إن علم أصول الفقه قد رسم له المنهجية التي يسير عليها في تناول الأحكام؛ فالفقيه لا يسير عبثا أو كلما ارتأى أمرا أفتى به؛ فهو لا يصدر إلا عن منهجية شرعية لا عن مجرد هوى أو تأمل.
بينما التكوين المعرفي لدى المفكر قد يساهم فيه عدد من العلـوم التـي تثري ثقافتـه حـول القضايا التي يتنـاولها، وهو غالبا يلامس المعلومة دون الغوص فيها؛ لأن هذه هي وظيفته، وقد تتشكل بنيته المعرفية من معارف متعددة: كعلوم السياسة والاجتماع والفلسفة والأدب... وغيرها؛ حتى تكتمل لديه الصورة حين يريد وصف قضية معاصرة أو يقوم بطرح حلول لها.
كما أن الأدوات المنهجية والتحليلية قد تختلف من مفكر لأخر؛ فبينما يعتمد بعض المفكرين على بعض المناهج الفلسفية، يحاول آخرون إيجاد منهجيتهم الخاصة في تناول القضايا. أما المفكر الإسلامي فيحاول تأصيل فكرته بمنهجية شرعية، وهكذا.
وأيضا قد لا ينطلق من منهجية وهذا هو حال كثيرين، بل يتأمل في القضية ثم يصدر عن قناعته الخاصة أو ما تميل إليه نفسه.
إن مجرد التأمل والتفكر أيسر بمراحل من التعلم والبحث عن الاستدلالات والحجج والبراهين، ومن السهولة بمكان على أي إنسان مهما كانت إمكاناته الثقافية متواضعة أن ينتقي رأيا من بين آراء متعددة أو ينشئ رأيا مستقلا طالما كان بمنأى عن المطالبة بالأدلة والبراهين التي عنها صدر رأيه.
كما أن من إشكاليات الفلسفة أنها تمنح دارسها إحساسا بالقدرة على تقديم رأيه في كل قضية، وأنه بأدواته الفلسفية أقدر على تقديم الرأي الأصوب، كيف لا وهو يتكلم في أعقد الأمور؟ فما بالك بما هو دونها؟
لذلك إذا لم ينضبط الفكر بالكتاب والسنة، فالفوضى نتيجة حتمية له، كما أنه بانضباطه بنصوص الفقيه ورجوعه للفقهاء في ما يتعلق بأمور الشريعة، وجعله العالم والفقيه عضدا ونصيرا له، يحقق بإذن الله الرؤية السليمة.
______________
مجلة البيان العدد283