رجال.. و.. رجال!!

0 1638

إن من يتتبع التاريخ.. ويستعرض المواقف الحاسمة، والساعات العصيبة في تاريخ الأمة، يرى على رأس كل قضية منها، وفي كل أزمة ومحنة تتهدد كيان هذه الأمة، وتتحدى شرفها، وكرامتها رجلا من العصاميين يستولي على قلبه الحزن، والاهتمام بهذه الحالة، فيذهل عن نفسه وأهله ويهجر راحته، ولذته، وتتلخص الحياة عنده في حل هذه الأزمة، وفض هذه المشكلة، فلا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال حتى تنجلي هذه الغمرة، ويرى نفسه مكلفا بذلك، وكأنما خلق له، وأمر به، ولا يرى لنفسه عذرا في الاعتزال والانصراف إلى النفس والعيال، وإليكم بعض النماذج من تاريخنا.

لقد علمتم ما أصاب المسلمين على إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من المحن، فقد أصيبوا بما لم تصب به أمة في فجر حياتها، وأشرفت الدعوة الإسلامية على الضياع، حسبكم قول عروة بن الزبير: إن المسلمين كانوا كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، ولكن الله سبحانه وتعالى قد قيض لهذه المحنة أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقام قيام الأنبياء، وليس بنبي، وركز فكره، وهمه على حراسة هذا التراث العظيم،ورد الأمر إلى نصابه، وأفرغ روحه في ذلك، وملكته هذه الفكرة حتى نسي نفسه، وكل ما عدا ذلك، وكان رجلا غير الرجال، لقد عرف بالرفق الزائد، وإيثار جانب اللين دائما على جانب الشدة والعنف، فتصلب، وخشن في هذه المرة، حتى فاق في ذلك عمر بن الخطاب المعروف بالشدة والصلابة؛ لأن الموقف يطلب ذلك.
 
رأى أبو بكر أنه القائم على هذه الأمانة العظيمة، والمسؤول عنها، ففاضت على شفتيه تلك الكلمة البليغة المأثورة التي تمثل نفسيته، وشعوره خير تمثيل: أينقض الدين وأنا حي؟ وبهذه الغيرة الملتهبة، والقلب المتألم، والنفس الأبية، استطاع أبو بكر أن يحفظ هذا الدين ويورثه الأجيال القادمة كاملا غير منقوص، قالت عائشة رضي الله عنها: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة، واشرأب النفاق، والله لقد نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها.. وصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم معزى مطيرة في حش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة. فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطمها وعنانها وفصلها، لذلك يقول أبو هريرة بحق: (والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله) قالها ثلاثا.
 
وإذا انتقلنا من القرن الأول إلى القرن السابع.. عندما تدفقت الجيوش الصليبية من أوروبا، واكتسحت فلسطين بما فيها من إمارات ومقدسات، وكانت كالجراد المنتشر، ولم يقف في طريقها ملك ولا جيش، وعجزت الحكومات الإسلامية عن مقاومتها، فاستولت على البلاد والعباد، وهددت هذه الأمة العظيمة وحضارتها، وكان الخطب جسيما، ووقف العالم الإسلامي على مفترق الطرق، فلو جرت الأمور إلى مجاريها لكان فريسة الاحتلال والاستعمار في القرن السادس كما كان في القرن التاسع عشر، وكان الأمر أعظم من أن يقوم له ملوك وقواد، ويكون الدفاع عن القدس واستقلال العالم الإسلامي، بعض همومهم أو من هوامش حياتهم، إنما كان ينبغي له رجل يكون الأمر كل همه، كان ذلك الرجل السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي اختاره الله لهذه المهمة، وهيأ هو نفسه لها، فقد حكى عنه صاحبه القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد أنه تاب عن المحرمات وترك الملذات، ورأى أن الله سبحانه وتعالى خلقه لأمر عظيم لا يتفق معه اللهو والترف.
 
قام صلاح الدين للدفاع عن فلسطين، ورد الغارة الصليبية، وركز فكره عليه، وتفرغ له، واستولت عليه هذه الفكرة استيلاء تاما حتى لم تدع لغيرها موضعا.. يقول ابن شداد في سيرته: لقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمته، تهب بها الرياح ميمنة وميسرة، وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد)
 
وقد حمل السلطان هم القدس، فأخذ منه كل مأخذ، وحل في قرارة نفسه، قال ابن شداد: وكان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال.
ومهما حاولت أن أصف هذا الهم الذي استولى على صلاح الدين، وأصور ما كان فيه من قلق وإزعاج دائم، وشدة اهتمام باسترداد البلاد، وتحرير القدس ورد الأوربيين على أعقابهم، لا أستطيع أن أزيد على وصف ابن شداد له بالوالدة الثكلى، ولا أستطيع أن آتي بتعبير أبلغ وأدق من هذا.
يقول رحمه الله في وقعة عكا: (وهو ـ أي السلطان ـ كالوالدة الثكلى، يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد.. وينادي بالإسلام وعيناه تذرفان بالدموع، وكلما نظر إلى عكا، وما حل بها من البلاء، وما يجري على ساكنيها من المصاب العظيم، اشتد في الزحف، والحث على القتال، ولم يطعم في ذلك اليوم طعاما البتة، وإنما شرب أقداح مشروب كان يشير بها الطبيب).
ويقول في فتح الطريق إلى عكا: (والسلطان يوالي هذه الأمور بنفسه، ويكافحها بذاته لا يتخلف عن مقام من هذه المقامات، وهو من شدة مرضه، ووفور همته كالوالدة الثكلى، ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئا يسيرا لفرط اهتمامه).
وقال في ذكر الواقعة العادلية: (لقد رأيته رحمه الله قد ركب من خيمته وحوله نفر يسير من خواصه والناس لم يتم ركوبهم، وهو كالفاقدة ولدها، الثاكلة واحدها)
 
بهذا الهم الشاغل، والنفس القلقة، والقلب المنزعج استطاع صلاح الدين أن يكمل مهمته، ويكتسب الفتح المبين في معركة حطين، وما كان اجتماع الجيوش عنده، والتفاف الأمراء إلا صدى لقلبه الخفاق، وإيمانه الفياض، وصدره الجائش، وروحه الملتهبة، ولا ترون انتصارا باهرا في التاريخ، ومعركة حاسمة، إلا من ورائها قلب يخفق، وعرق ينبض، وليث يثور، وشجاع يغضب.
 
وبالمقابل.. فإن تلك الأحداث العصيبة التي مرت بالأمة.. وقف لها رجال.. خانوا الأمة في أحلك الظروف.. وأحرج المواقف.. في وقت كانت بأمس الحاجة إلى صمودهم وثباتهم في صفها.. فإذا بهم ينقلبون سهاما تغرس من خلفها.. وسيوفا تطعن في ظهرها.. فالدولة العباسية من أعظم دول الإسلام.. وحكامها وإن أصاب بعضهم تقصير وخلل إلا أنهم من أعظم ملوك الإسلام أثرا في تاريخ المسلمين وفي عهدهم ازدهرت بيارق العلم من جهة وازدهرت بيارق الجهاد من جهة فوصلت رايات المسلمين شرقا وغربا إلى ما لم تصله قبل ذلك، وبلغ سلطان المسلمين وملكهم أوجهما في عهد هارون الرشيد ذلك الملك العباسي العابد المجاهد الذي كان يغزو سنة ويحج سنة، ثم طرأت العلل على هذه الدولة الإسلامية العظيمة فضعفت، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف انهارت هذه الدولة الإسلامية العظيمة؟!! لقد كان سبب سقوطها على يد وزير باطني رافضي خبيث وقصة ذلك أن آخر الخلفاء كان ضعيف الرأي.. محبا للأموال متبعا للشهوات ومن غفلته اتخذ وزيرا باطنيا رافضيا خبيثا هو محمد بن العلقمي فائتمنه على شئون الدولة.. فأخذ الوزير الخبيث يصرف الجنود من حول الخليفة شيئا فشيئا حتى إنه لم يبق حول الخليفة في العاصمة العباسية حينئذ بغداد، لم يبق فيها إلا عشرة آلاف فارس، ثم أخذ محمد بن العلقمي يكاتب التتار حتى إذا أقبلت جيوش التتار متلاحمة كالبحار أقبلت إلى بغداد وليس فيها حول الخليفة إلا تلك القوة الضعيفة من الجند زين، الوزير بن العلقمي إلى الخليفة أن يخرج إلى هولاكو قائد التتار من أجل التفاوض على الصلح فخرج الخليفة من غفلته ومعه سبعمائة من الأعيان والقضاة والعلماء فقتلهم التتار عن بكرة أبيهم وقتل الخليفة المستعصم بين يدي هولاكو صبرا ومعه سبعة عشر من خواصه منهم ثلاثة من أبنائه.
 
وذكر المؤرخون أن عدو الله هولاكو التتري الوثني تهيب في بادئ الأمر من قتل الخليفة لما يعلم من مكانته في قلوب المسلمين، فأخذ ابن العلقمي الوزير الخائن الرافضي الخبيث يهون عليه ذلك ويزينه له حتى قتله، وابن العلقمي يتفرج على ذلك.
 
ثم دخل التتار بغداد.. وقد فتح أبوابها الوزير ابن العلقمي.. فدخلوا يقتلون وينهبون ويأسرون ويدمرون ويحرقون أربعين يوما حتى أصبحت بغداد التي كانت حين ذاك زهرة مدائن الدنيا أصبحت خرابا يبابا.. تنعق فيها البوم، وقتل فيها كما يذكر ابن كثير في تاريخه حوالي ألفي ألف إنسان أي حوالي مليونين من المسلمين والوزير الرافضي الخبيث ابن العلقمي يتفرج على تلك الكارثة الهائلة التي حلت بالمسلمين.. وسقطت تلك الدولة العباسية الإسلامية العظيمة، التي استمر ملكها أكثر من خمسمائة سنة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
ومن الرجال الذين لهم مواقف مشهودة في ضياع الأمة.. والذي على يديه تم سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية.. مصطفى كمال.. الذي لبث في أول أمره فترة يتمسح بمسوح الإسلام ولقب نفسه بالغازي في سبيل الله وأعلن الجهاد ليخدع المسلمين لتنطلي حيلته على السذج ولقد انطلت حيلته فعلا.. حتى مدحه أحمد شوقي في قوله:
الله أكبر كم في الفتح من عجب .. .. يا خالد الترك جدد خالد العرب
 
وانخدع به وظنه فعلا مجاهدا غازيا في سبيل الله وما لبث ذلك الطاغوت أن كشر عن أنيابه فإذا هو عدو لله ورسوله، فتك بالمسلمين في ديار الترك.. وسفك دماء علمائهم.. وحارب مظاهر الإسلام وشعائره.. وحرم التكلم والكتابة بالعربية، واستبدل بها اللغة التركية والحروف اللاتينية.. وقد وصلت به الوقاحة أن منع أن يؤذن بالعربية.. وأوجب أن يكون الأذان بالتركية من شدة سخريته بالإسلام والمسلمين..
 
لقد خدم الماسونية خدمة عظيمة حتى قالوا عنه كما في دائرة المعارف الماسونية: (إن الانقلاب التركي الذي قام به الأخ العظيم مصطفى كمال أتاتورك أفاد الأمة، فقد أبطل السلطنة وألغى الخلافة، وأبطل المحاكم الشرعية، وألغى دين الدولة الإسلامية، أليس هذا الإصلاح هو ما تبتغيه الماسونية في كل أمة ناهضة فمن يماثل أتاتورك من رجالات الماسون سابقا ولاحقا). (صحوة الرجل المريض ص 273.)
 
هذه مواقف رجال ورجال.. مواقف تباينت تباين ما بين المشرق والمغرب.. مواقف سجلت بمداد من نور.. ومواقف أصبحت عارا في جبين الأمة.. مواقف يتفاخر بها أهل الإسلام على مدار الزمان.. ومواقف تجلب الحزن والأسى كلما سنحت في ذاكرة أهل الإيمان.. أناس أصبح هم الأمة وإصلاح أوضاعها جاثما على قلوبهم، آخذا بمجامع أفئدتهم وأفكارهم، وأناس أصبحوا أداة تحرك لتحطيم الأمة ومقدراتها.
فمن أي الرجال تكون أنت؟! ومن أي المواقف موقفك؟!!
 
لا تقل: هذه مواقف أمراء ووزراء.. فقد كان هؤلاء لا شيء.. ولكن بجهدهم الدؤوب، وعملهم المتواصل أصبحوا شيئا مذكورا.
هذه الأمة اليوم على مفترق طرق، وتعاني ألم الاحتضار،فيا ترى ما موقفك تجاهها؟!! هل أخذ الهم بمجامع قلبك.. فإذا بك تقلب حياتك كلها سخرة لدينك.. ونصرة ملتك.. والدفاع عن عقيدتك؟!! أم أنك لا تزال غارقا في بحر أمانيك.. سابحا في محيط الشهوات والملهيات.. لا هم لك إلا جمع الحطام الفاني!!
 
إنه لا يرضى لكم أن تكونوا رجالا لا يهمهم إلا المصالح الشخصية والرفاهية الفردية؟، وأن يكونوا ذلك الساقط الهمة الذي ذمه الشاعر بقوله:
لحا الله صعلوكا مناه وهمه .. .. من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
 
ويا ليت شباب الإسلام بلغوا في علو همتهم، وطموحهم مبلغ الشاعر الجاهلي امرئ القيس حيث قال:
ولو أنني أسعى لأدنى معيشة .. .. كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنني أســعى لمــجد مـؤثل .. .. وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
 
إن المجد المؤثل وهو الذي يحلم به الشاعر الطموح، هو الذي نشده عمر بن عبدالعزيز فأدركه، وسعى له طارق بن زياد ومحمد بن القاسم الثقفي فوصلا إليه، وهو الذي يليق أن يكون غايتكم المنشودة، إنكم بحق أحق الناس بأن تضحوا برفاهيتكم، وترفكم وأمانيكم المعسولة في سبيل الإسلام، وفي سبيل المصلحة العامة، والسعادة البشرية، وتنضموا إلى الراية المحمدية، التي اختارها الله لكم راية، واختاركم لها أمة وجندا إلى آخر الدهر {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو موالكم فنعم المولى ونعم النصير}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موسوعة الرد على المذاهب 27/206

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة