- اسم الكاتب:الأستاذ /محمد أحمد الغامدي
- التصنيف:ثقافة و فكر
لا يستطيع أحد أن يشكك في مدى سطوة الإعلام بوسائله المتعددة على العقول والأفكار والأذواق؛ بل حتى على المشاعر التي لم تسلم من عبث الإعلام بها، وهو ما ساهم في تفشي ظواهر كثيرة ثقافية وغير ثقافية، ولعل من أبرز الظواهر الثقافية ظاهرة الجدل بكافة أنواعه وفنونه وعلى جميع المستويات (السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية)؛ بل كل ما يمت للإنسان بصلة امتدت إليه ظاهرة الجدل؛ فأصبحت كل قضية - جليلة كانت أم حقيرة - تطرح من منظور جدلي وتعالج بطريقة سجالية؛ وكأن الإعلام يعيد صياغة منهجية التفكير لدى الإنسان؛ فيصبح لا يأخذ قضية أو يتناول فكرة إلا وهي محملة بالشكوك والجدالات.
وفي خضم هذا كله كيف يصل إلى الصواب أو يهتدي إلى الحقيقة وهو لا يجد أمامه إلا أن يختار اختيارا اعتباطيا؟
لقد أصبح الجدال أحد أهم أسس الصناعة الإعلامية؛ فلا تكاد تخلو منه قناة مهما اختلف نوع المعروض فيها، بل يعتبر سمة بارزة في بعض القنوات التي ساهمت في انتشارها؛ فحينما تطرح قضايا مشتعلة تتنازعها أطراف متعددة، وهو ما يجعل المهتمين بهذه القضايا ينجذبون لمثل هذه البرامج الجدالية التي في حقيقتها وسعت دائرة الخلاف وأضعفت الثوابت والقناعات، حتى أصبح الوصول للصواب أو الأقرب للصواب أمرا يشبه المستحيل عند المتلقين الذين بدورهم تحول منهج التفكير لديهم إلى أسلوب جدالي، وأصبحت النفسيات مشبعة بحب الجدال والغلبة؛ فلا تبتغي سبيل الحق بمقدار ما يكون تفكير صاحبها منصبا نحو الغلبة وفرض الرأي وإسقاط أراء الآخرين؛ وذلك عن طريق البحث عن أي سقطة أو خلل ينفذ منه إلى آراء خصومه فيبطلها أو يشوش الرؤية عليهم في أقل الأحوال.
والنتيجة ضياع الثقافة العميقة والأفكار الرصينة، والانتقال لثقافة سطحية تحمل كل ألوان الطيف غاية همها إرباك الخصم ومحاصرته ومن ثم التغلب عليه.
وانظر إلى أي برنامج جدالي مهما طالت مدته ثم انظر إلى الفوائد المجتناة من ذلك الجدل؛ فلا أظن أنك تظفر بفائدة تذكر إلا عنوان القضية المطروحة أولا، وبعض النتف الثقافية الهزيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ثم ألق نظرة فاحصة على عقائد الناس وقيمهم وثوابتهم: كم تزعزعت، وأخذت التساؤلات والشكوك تتسرب إليها بقوة بعد شيوع هذه الظاهرة؛ حيث لم تسلم من طاولة النقاش عقيدة مهما عظمت، ولا مبدأ مهما علت قيمته؛ إذ يعرض في مقابلها الضد الذي هو مرفوض أصلا وغير معترف به لدى أصحاب تلك العقيدة أو ذلك المبدأ، وتكون بداية الاعتراف به على أنه خصم يسمع منه أول خطوة لقبوله، فيأخذ من خلاله مساحة - ولو يسيرة أو هامشية - من إنصاتهم ومن رسوخهم في عقائدهم وقيمهم ، ومع مرور الوقت وتتابع النقاشات تلو النقاشات تبدأ تلك المساحة الضئيلة في الاتساع مع انكماش في مساحة الثابت والراسخ إلى أن يتساويان، وفي هذه الحالة يكون الأكثر تمسكا بمبادئه والأقوى رسوخا في عقيدته هو من يستطيع أن يقول: هذا مبدأي أو عقيدتي أو قيمي وأنا أتمسك بها وألزمها كتمسكك والتزامك بقيمك، وهذا أقل حقوقي.
بينما يداخل الكثيرين شك في أن ذلك الضد المقابل وقد يكون على حق وهذا بعكس حالهم السابقة؛ حيث لم يكونوا يعترفون بعقيدته أو قيمه ويرون أنها باطل، وليس أمامه من طريق إلا أن يتخلى عنها جملة وتفصيلا.
وقد يقال: لماذا لا ننظر إلى الجانب الإيجابي في ثقافة الجدل؛ فبواسطتها نستطيع إزاحة العقائد الفاسدة أو إضعافها؟
وقد يقبل هذا التساؤل نظريا، لكن إذا نظرنا للواقع الممارس فسنجد أن الطعـن والتشكيك والشغب وإثارة الخصوم صبت صبا معتمدا متطرفا على العقيدة الصافية والقيم الإسلامية الراسخة.
حتى أصبح يتردد على ألسنة الكثيرين قولهم: كنا نعتقد كذا فبان خلافه، وكنا نتشدد في كذا فظهر أن الأمر أيسر مما كنا نعتقد، وكنا نحرم كل شيء، وكنا أصحاب نظرة قصيرة وأفق ضيق، وكنا نظن أنا وحدنا المسلمون... وهكذا من عقد الذنب غير المتناهية التي فتحت الباب على مصراعيه لكل عابث بدين الله ولكل باحث عن الأضواء، فانتشرت الآراء الغريبة والفتاوى الشاذة وكثرت التخبطات والانتكاسات.ولكن: هل يحدث هذا الأمر هكذا فجأة ودفعة واحدة؟
ولعلنا لا نستغرب أنه إذا تزعزعت الثوابت فماذا ستكون النتائج؟ قطعا ستكون شكوكا وترددا وتذبذبا ومحاولة بحث عن شيء ثابت، وأين الثابت وسط كل هذه الفوضى، وكل هذا الطوفان من الشكوك؟
ونظرا إلى ما قاله الصحابي الجليل حذيفة - رضي الله عنه - وكأنه يحكي ما يحدث في أيامنا هذه حينما قال له أبو مسعود: اعهد إلي. قال: ألم يأتك اليقين؟ قال: بلى. قال: “فإن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون؛ فإن دين الله واحد”
وليست كما يتوهم بعض الناس أنها ظاهر صحية في الوعي حتى لا يحدث جمود في الفكر وتكلس في التفكير؛ بحيث يكون انتقال الأفكار وتداولها عن طريق التقليد دون أن تعرض على مشرحة النقد والتنقيح والتمحيص والنقاش. بل هو ظاهرة مرضية تصيب الأمم في فترات الخمول وأوقات الهزائم والتراجع، فيسعون لملأ فراغهم النفسي بشيء يشعرهم بدور يقومون به؛ فلا يوجد أشق على النفوس من الإحساس بضآلة القيمة وضياع العمر في الأمور الصغيرة دون الكبيرة، فإذا لم يستطيعوا القيام بالأمور الكبيرة سدوا هذا الفراغ بكثرة الجدال والنقاش باعتباره نوعا من الإشباع النفسي.
وتخيل في مثل هذا الجو من التقاعس والخذلان وتجرع الهزائم ماذا سيطفو على السطح من أفكار؟
لا يمكـن أن تكـون أفكـارا عظيمـة؛ فالأفكـار العظيمـة لا تنتج إلا في الأزمنة العظيمة والأفكار الهابطة نتاج الأزمنة الضائعة. وهو مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل" ثم قرأ {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} .
فثقافة الجدال هي البديل أو العقوبة التي تسلط على من أعرض عن كتاب الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم علما وعملا.
والجدال يعطي صاحبه شعورا بالامتلاء الكاذب والتفوق الزائف؛ فهو إذا أسكت فلانا، وانقطع عنده آخر شعر بالتميز الذي ما بعده تميز! وربما لم يعلم المسكين أن أكثر من يكف عن نقاشه إنما يستنكف استخفافا به وتعاليا عليه أو توفيرا لعقل وجهد مهدورين في نقاش لا فائدة تجتنى من ورائه.
ولا تعد الغلبة تميزا في مجال اللجاج؛ فهي نوع من الخصومة لا يظهر فيها إلا إذا كان أكثر سوءا. يقول الشاطبي: "ولا ترى أن ظهور حجة من يخاصمك نعمة عليهم بل هو استدراج والعياذ بالله"
وليس هناك من هو أكثر هشاشة وقابلية للكسر في مبادئه وثوابته من المجادل، ومن ينظر إلى القوة التي يتحدث بها والثقة المبالغ فيها ومحاصرة الخصوم وتفنيد حججهم، وقمعهم بالحجة تلو الأخرى ظن فيه قوة قي المبدأ لا يتطرق لها الضعف وصلابة في اليقين لا تعرف اللين؛ بينما ليس أسهل من المجادل في تبني أقوال الخصوم، فهو حين يجادل الخصم يتمثل مقولته ليستوعبها بغية الوصول لمواطن الضعف والخلل فيها حتى يجد فيها منفـذا قاتلا يهـاجم من خلاله خصمه المعاند حتى يلزمه ويقهره، وخلال تجواله في فكر الخصم يتشربها وهو لا يشعر.
يقول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل"