الخل الوفي.. هل هو ضرب من الخيال؟! 1/2

15 1483

الأخوة الإيمانية مقام منيف، ومطلب شريف، تتطلع إليه النفوس الكبار، وتسعى في سبيله همم المؤمنين الصادقين، وما من أمة حققت المؤاخاة والمحبة بين أبنائها؛ إلا واستقام عودها، وتماسك بنيانها، وعز جنابها.

ولذا كانت هذه الأخوة لازمة لنا وللأمة إذا أردا أن النهوض من الكبوة والخروج من حالة المهانة والذلة التي نحن فيها.. لابد أن نتعرف على معانيها وشروطها ونعمق وسائلها ونقوم بأداء آدابها وحقوقها لنجني ثمارها ونحصل فضائلها مترسمين في ذلك خطى السلف علنا نعيد مجدا فقدنا وعزا فارقناه حتى نسيناه.
الأخوة نوعان:
أخوة عامة: دل عليها قوله تعالى إنما المؤمنون إخوة، وقوله والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" وهذه الأخوة عبارة عن شعور عميق بالعاطفة والمحبة والاحترام لكل من تربطك به آصرة العقيدة ورابطة الإسلام، هذا الشعور يترجم إلى مواقف عملية هي في الحقيقة حقوق الأخوة العامة التي ذكر بعضا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: [حق المسلم على المسلم ست.. قيل: ما هن يا رسول الله؟! قال: إذا لقيته فسلم عليه. وإذا دعاك فأجبه. وإذا استنصحك فانصح له. وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده. وإذا مات فاتبعه](رواه مسلم)
وفي الحديث المتفق عليه قال صلى الله عليه وسلم: [إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا].
 
وقد روى أبو هريرة كما في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [المسلم أخو المسلم. لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ههنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام. دمه وماله وعرضه].

هذه حقوق عامة لعموم الأخوة،  حق لكل مسلم على أخيه المسلم، فما هي يا ترى الأخوة الخاصة؟

أما الأخوة الخاصة
فهي أن تصطفي من عموم المسلمين أخا نقيا، وصاحبا تقيا، وخلا وفيا، يكون لك في الدرب رفيقا، وعلى الحق نصيرا، ولبلوغ رضا الله ثم الجنة معينا، وفي زمن الغربة أنيسا.. حبيب تأوي إليه، ونديم تهفو بقلبك نحوه، وركن تلجأ بعد الله في الملمات إليه.. أخ يحمل عنك أتراحك، ويعيش معك أفراحك، وتكون أحب إليه من نفسه، وأحق بها وبماله منه.
سئل ابن السماك عن صفاته فقال: الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يملك على القرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله.
وقيل لخالد بن صفوان: من أحب إخوانك إليك؟ قال: الذي يسد خلتي، ويغفر زلتي، ويقيل عثرتي.
وقال علي: لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: غيبته، ونكبته، ووفاته.
من لــي بإنســان إذا أغـــضــبته.... وجهلت كان الحلم رد جوابه
وإذا صبوت إلى المدام شربت من.... أخـلاقه وسكرت من آدابـه
وتـــراه يصــغي للحديث بطــرفه.... وبقـــلبه ولـــعله أدرى بــه
فإذا أردت أن تصطفي من الناس خلا، فاصحب من يرى مودتك، وتسره صحبتك، ويحسن عشرتك، ويحفظ غيبتك... من يرى محبتك فضيلة، والفوز بصحبتك غنيمة، من يستأنس بلقائك، ويستوحش بغيابك، ولا يغضب لعتابك.. ومن يسره ما سرك، ويسوؤه ما ساءك وضرك، ومن تكون عنده أحب من نفسه فيعاملك بالإيثار.
فإذا وجدت هذا فاعضض عليه بأنيابك، واشدد يديك عليه، فهو منتهى الأرب وغاية الطلب، ووجوده في هذا الزمان أعجوبة من العجب، والأصل عدمه ـ إلا ما رحم ربي ـ فهو أعز من الكبريت الأحمر، وأندر من الذهب الخالص، بل عده أقوام بأنه محال، أو ضرب من الخيال.. كما قيل لبعضهم: ما الصديق؟ قال اسم على غير مسمى، وشيء لا وجود له.
سمعنا بالصديق ولا نراه.... على التحقيق يوجد في الأنام
وأحســبه محـــالا نمقـوه.... على وجـه المجـاز من الكلام
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: كان الناس وردا لا شوك فيه، فصاروا شوكا لا ورد فيه.
ونسب إلى جعفر الصادق قوله: أقلل من معرفة الناس، وإذا كان لك مائة صديق فاطرح تسعة وتسعين، وكن من الواحد على حذر.
وإذا كنت تستبعد هذا الكلام، وتستغربه، وتظنه ضربا من التشاؤم، وسواد النظرة؛ فاسمع إلى ابن الجوزي، وقد كان حالة كما قال القائل:
لما رأيت بني الزمان وما بهم.... خـل وفي للشـدائد أصطفي
أدركت أن المستحيل ثلاثة.... الغول والعنقاء والخل والوفي
يقول ابن الجوزي رحمه الله: هيهات هيهات!! رحل الإخوان وأقام الخوان، قل من ترى في هذا الزمان إلا من إذا دعي مان، كان الرجل إذا أراد شين أخيه طلب حاجته من غيره.. ثم نسخ في هذا الزمان رسم الأخوة وحكمه فلم يبق إلا الحديث عن القدماء.. فإذا سمعت بإخوان صدق فلا تصدق.
اجعل الله صاحبا.. ودع الخلق جانبا
من يصحب الناس.. يجـدهم عقـاربا
إذا عرفت هذا.. فعليك بخاصة نفسك، وأحسن إلى الناس، واطلب الأجر من الله، ولا تنتظر منهم إحسانا، وعليك بنفسك فأصلحها، فإن الوحدة ـ وإن كانت شرا ـ إلا أن أشر منها صحبة إخوان الدنيا؛ الذين يقبلون معها إذا أقبلت، ويدبرون معها إذا هي تولت وأدبرت.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة