النخبة المثقفة والخيار الصعب

3 1037
  • اسم الكاتب:د. أحمد بن عبد المحسن العساف

  • التصنيف:ثقافة و فكر

حفل عام 1432هـ باندلاع الثورات الشعبية في البلدان العربية، وتلاها سقوط أربعة زعماء بأربع طرق مختلفة، وقد خلفوا تركة لا يشرف بها وارث من العار والفساد يتجاوز مجموعها مائة وخمسة وعشرين عاما، وعاشت بلاد العرب فرحة غير مسبوقة حين نفضت عن كاهلها ركام هذه العقود العجاف، وتنفست الصعداء بعد زوال القهر والظلم، ومع هلاك أولئك الجلادين خنست أصوات شياطينهم الإنسية. بيد أن الجموع لم تنس مواقفهم المؤيدة للباطل الساكتة عن الحق.
والمثقف لسان مجتمعه، وقلبه النابض، وروحه النشيطة، ووجدانه الحي، وأي اعتلال يبتلى به المثقفون يعود بالنقص على مجتمعاتهم وعلى ما يسود فيها من أفكار وآراء. وأصبح من المتعارف عليه أن للمثقف رأيا في غالب الأحداث؛ وينتظر المتابعون قول المثقف بلهفة وحرص ثقة بأمانته، أو اغترارا بتصدره وكثرة ظهوره. وبالمقابل اعتاد المثقفون على علو أصواتهم في كل شأن - تقريبا - فلم تخطئ العين ولا الأذن تفاعلهم تعليقا على أمر أو ابتداء لآخر. وهذا أمر طبيعي للمثقف المشتغل بالشأن العام؛ إذ الكلام هو القاعدة، والسكوت استثناء يكاد أن يكون مريبا.

وفي خضم هذه الثورات كان لا بد للمثقف من موقف يجهر به، ويخاطب الشريحة التي تتابعه وتثق في رأيه وتصدر عنه في مواقفها. وكان الحدث منعطفا خطيرا للمثقفين من ناحية، وللجماهير من ناحية أخرى؛ فقد كشفت الأحداث الوجه الحقيقي للمثقفين، فاستبان للجمهور المعدن الأصيل لبعضهم، والمعدن الصدئ لبعضهم الآخر، وطالع الجميع حقيقة أن المثقف يعتريه ما يعتري عامة الناس من رغبة ورهبة، وأنه يمكن للمجتمع الاستغناء عمن كانت ثقافته نفعية ذاتية لا تأبه لقيمة عالية ولا لمصلحة عامة.
وقد تباينت مواقف المثقفين من الثورة؛ فمنهم من آثر الصمت طلبا للسلامة أو انتظارا للنتائج، وبعضهم خالف ما يقتنع به ولج في تأييد الطغاة خوفا من سطوتهم أو طمعا في مال أو منصب، وفيهم الصادق في التعبير عن رأيه وما يعتقده الأصلح لأمته وبلاده؛ سواء انحاز للنظام القائم آنذاك أو للشعب الثائر. وفضيلة هذا الصنف واضحة في البناء على ما يعتقده صوابا حتى وإن كان صوابه خاطئا ما دام استفرغ وسعه في البحث والسؤال، وتحرى الصواب دون مؤثرات ظاهرة أو خفية.

وقد سقط مع هذه الأنظمة البائدة فئام من المثقفين الذين كانت لهم تصريحات وأقوال ممجوجة لا يظهر عليها أثر اعتقاد وإنما اللهاث خلف الملذات والوعود، وكم من كاتب كان يبرز للقراء عبر عمود يومي فانكسر العمود على رأسه، وكم من خطيب يعتلي المنابر تأييدا للظلم فهوى به المنبر، وكم من مفت مال مع هواه فعدل عنه المستمعون، وأما أرباب سافل الأفعال من رقص وطرب واستهزاء، فقد فضحهم الله بسوء رأيهم وقبيح منطوقهم؛ حتى لم يبق لهم مكان في قلوب من كان يظنهم شيئا يستحق التقدير.
ومن الملاحظ تركيز وسائل الإعلام على مواقف العلماء المؤيدة للأنظمة السابقة دون غيرهم من فئات المثقفين، ولا يوجد لهذا التركيز سبب وجيه فليس باقي المثقفين من سقط المتاع حتى لا يعتب عليهم أحد، والكل مشتركون في تكوين ثقافة الأمة ورسم معالمها. ومن التركيز المشبوه ما انصب على العلماء السلفيين فقط، مع أن عددا من الأنظمة استعانت بفتاوى وآراء لعلماء على غير منهج السلف، والخطأ مرفوض ممن فاه به أيا كان، والعدل يقتضي التفريق بين رأي يعتقده صاحبه، وبين رأي يعلنه قائله اتباعا للهوى ويطوي الصدر على خلافه، والإنصاف عزيز.

وتعود أسباب نكسة المثقفين إلى عوامل، منها: أن الثورة كانت مفاجئة في اشتعالها وفي نتائجها، إضافة إلى أن هؤلاء المنتكسين لم يعتادوا على التفكير الحر المستقل عن تأثير الواقع والمصالح الخاصة، وما كانوا يعبرون عما يعتقدونه صوابا نتيجة لهذه الآفة، وجعلوا مواهبهم خادمة في بلاط النظام بعمه وبلاهة أحيانا، ولا ننس أن الخذلان لمن تنكب صراط الله المستقيم سنة ماضية وستبقى، وآثارها محفوظة في سجل المثقفين المنحرفين عبر التاريخ.
ومع أفول نجم المثقفين المنعزلين عن هموم مجتمعهم وثقافته الحقيقة، تبرز الحاجة إلى مثقف يعيش هموم الناس وآلام مجتمعه وآماله، ويحيا مقدسا لثقافة المجتمع ومرجعيته الشرعية، وها هي الفرصة سانحة للمثقفين الصادقين ليكونوا في طليعة المجتمعات التي اختارتهم لقيادتها ورعاية مصالحها وشؤونها، ويا لها من منة ونعمة تستحق الشكر وصرف الجهود والإمكانات حتى يهنأ المجتمع بنعمة الإسلام في سياسته واقتصاده وثقافته، وذلك فضل الله يهبه لمن شاء من عباده.

ولو أنهم أدمنوا على النصيحة للمسلمين لصفت قلوبهم وأبصروا نور الحق والهدى، ولا ننس فوق ذلك أن الخذلان لمن تنكب صراط الله المستقيم؛ ولم يسأل ربه الهداية لـما اختلف فيه من الحق سنة ماضية وستبقى، وآثارها محفوظة في سجل المثقفين المنحرفين عبر التاريخ.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة