مزالق الحوار

4 1207

إن عصرنا الحاضر عصر انفتاح، تكسرت فيه الحدود وتحطمت الحواجز، إنه عصر الفضاء والإنترنت، وأسلوب المنع والحظر والتشويش لم يعد يجدي، والحل الوحيد هو النزول إلى الميدان، ومقابلة الحجة بالحجة.
ومجالس الناس أصبحت عامرة بالمتناقضات من الآراء والتوجهات، مما يعتقدون وما لا يعتقدون، وما يدركون وما لا يدركون، ولم يعد مجديا تسفيه الآخرين مهما تكن ضحالة أفكارهم، أو تفاهة حججهم، بل لابد من الاستماع إليهم، واستيعابهم بالإقناع، فالتناسب بين الداء والدواء ضروري؛ حتى يتقبل الجسم العلاج وينتفع به.
ولقد كشفت منتديات الحوار في الإنترنت الخلل الكبير في آلية الحوار، وفي تجاهل الكثيرين لدائرة المتفق عليه بين المسلمين، وأهل العلم، وأهل الدعوة، وأهل السنة، وهي دائرة واسعة جـدا، سواء فيما يتعلق بالدين وفهمه، أو فيما يتعلق بالمصلحة وإدراكها وتحقيقها، وتجاهل المتفق عليه وإغفاله في مقابل تكريس الخلاف في أمور يترتب عليها آثار سلبية كبيرة، منها ما نشاهده في بعض الحوار الإلكتروني والإعلامي من انتهاكات عالية الخطورة لنظام الأخلاق الشرعي، ومن ذلك:

إن لم تكن معي فأنت ضدي
فهناك المفاصلة، بل والمقاصلة، فبمجرد أن أكتشف أن بيني وبينك نوعا من الاختلاف أو التفاوت -حتى ولو كان في مسائل جزئية أو صغيرة- فإننا نتحول إلى أعداء ألداء، بدلا من أن نكون أصدقاء أوفياء، وقد كان عيسى عليه السلام يقول: من لم يكن ضدي فهو معي. فهذا هو فقه الشريعة، وبل وفقه الحياة، والعلاقات الإنسانية!

الخلط بين الموضوع والشخص
فيتحول نقاش موضوع أو فكرة أو مسألة إلى هجوم على الأشخاص، وتجريح واتهام، وطعن في النيات، واستعراض لتاريخ هذا الإنسان أو ذاك، ومن ثم تتحول كثير من الساحات إلى أماكن للفضائح والاتهامات، والطعون غير المحققة، ويغدو الاصطفاف حزبيا أو شخصانيا، تؤثر فيه المواقف العاطفية ضد شخص أو آخر، وليس للعقل والحجة والمصلحة فيه حضور أو إعمال.

تدني لغة الحوار:
إذ يتحول الحوار إلى نوع من السب والشتم، بدلا من المجادلة بالتي هي أحسن، وكما يشير الأئمة، ومنهم الغزالي وابن تيمية والشاطبي وغيرهم، إلى أنه لو كانت الغلبة في المجادلة بالصياح، لكان الجهلاء أولى بالغلبة فيها من غيرهم، وإنما يكون النجح بالحجة والهدوء. وفي المثل:"العربة الفارغة أكثر جلبة وضجيجا من العربة الملأى".

القعقعة اللفظية:
والتي نحقق بها أوهام الانتصارات الكاسحة على أعدائنا، ونحرك بها مسيرة التنمية والإصلاح لمجتمعاتنا زعما وظنا، وقد تسمع من يقول لك: كتب فلان مقالا قويا. فتنتظر من هذا المقال أن يكون مقالا مؤصلا عميقا، قد أبدع فيه وحرر وحقق، أو أحاط الموضوع من جوانبه، أو حل مشكلة عويصة، أو طرح نظرية جديدة، فإذا بك تجده مقالا مشحونا بالعبارات الرنانة، التي فيها الإطاحة بالآخرين الذين لا يتفقون معه.
وهكذا تبدو القوة في كتاباتنا أو خطبنا أو برامجنا الإعلامية، هي في الصراخ والإقصاء، وتجميع الألفاظ الحاسمة والقاسية وتنزيلها على المخالفين، أو الجرأة على الادعاءات العريضة، حتى لو كنا لا نملك البرهان عليها!

الجدل العقيم:
وهو الدوران حول الرأي دون استماع للآخر، كما حدثتني إحدى الفتيات بأنها ظلت لسنوات وكأنها حبيسة في غرفة زجاجية ترى الناس ويرونها، لكن لا تسمعهم ولا يسمعونها؛ لأنها تدور حول موضوعات وآراء مسلمة لديها، مهمتها إقناع الآخرين بها، دون استماع لما لديهم.
ومن ذلك ما يسميه الفقهاء: "تحرير محل النزاع".
فإن كثيرا من المجادلات والحوارات يتيه فيها المتحدث والسامع، ولا يحدد المسألة التي يدور حولها الحديث، وقد يتحدث أحدهم عن شيء، والآخر عن غيره، لتقارب المسائل أو التباسها، أو تشابه الأسماء.

الأحادية:
وأعني بها ما حكاه تعالى عن فرعون: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) بحيث يدور الشخص حول رأيه ووجهة نظره التي ليست شرعا منزلا من عند الله تعالى، ولا قرآنا يتلى، ولا حديثا، ولا إجماعا، وإنما هو رأي قصاراه أن يكون صوابا فيتحلق حوله هذا الشخص وآخرون، ويصبح مدار الأمر عليه.

القطعية:
وأعني بها: قولي صواب لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب.
ويا ليت القطعية تعني الوقوف عند محكمات الشريعة المنـزلة، أو ثوابت الإجماع القطعي، إذن لكانت خيرا وبرا، ولكننا قد نغفل أو نتعامى عن بعض هذه المحكمات إذا لجت بنا الخصومة، وتصبح قطعياتنا مسائل إلحاقية جزئية، أو ذوقيات أو ما شابه.

التسطيح والتبسيط:
فالأشياء التي يشق علينا فهمها، أو التي تحتاج إلى تأمل أو تدبر أو روية أو بحث، هي أشياء خاطئة ومخالفة للحق، ومخالفة للسنة، والذين يتحدثون فيما لا نفهم هم مهرجون، وتجار كلمة، أو فلاسفة، أو متقعرون يتظاهرون بالعلم والمعرفة، وكأننا أصبحنا بإمكاناتنا العقلية المتواضعة حكما على الناس، ونسينا قول عمرو بن معد يكرب:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع

الإطاحة:
والتنادي للحملات التشويهية التي تستهدف من لا يوافقنا، وكأن في يدنا الرفع والخفض، وكأن رسالتنا أصبحت محصورة في تعويق من لا نحب، وصرنا بهذا نعرف ما لا نريد، ولا نعرف ما نريد، وصار لكل شهير أو عالم أو داعية أو قائد خصوم يقصرون حياتهم على نشر الشائعات، وتشويش الرسالة، وطرح الاتهامات، ونبش الأرشيف، وتضخيم الأخطاء.
ومن قبيل هذا: ما تجده في بعض القنوات الفضائية والإلكترونية من حوارات يغلب فيها اللجاج والصخب، والفجور في الخصومة:
* فلان لا كرامة له عند الله تعالى، وعند كل موحد لله العظيم.
* فلان ليس له عند الله من خلاق.
فانظر الجراءة على الله وعلى عباده الصالحين، حين تتحول أذواقنا أو مشاعرنا السلبية تجاه هذا الشخص الذي لا نحبه أو لا نحترمه -وليكن مخطئا أو منحرفا- إلى ضابط للحكم عليه بأنه لا قدر له عند الله، ولا عند الموحدين من عباده، مع أنه ما زال مسلما يؤمن بالله العظيم!
ومن ذلك: قول بعضهم:
* فلان مات، فإلى جهنم وبئس المصير.
وقد تقال هذه الكلمة في حق إمام، أو شيخ فاضل، أو داعية صادق، أو مؤمن نحسبه والله حسيبه، ولكن الذين لا يفقهون يتجرؤون ويطلقون ألسنتهم ولا يتورعون.

وكأن صاحبنا أخذ ذلك عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أو تلقاه عن جبريل الأمين عليه السلام.
وهذا كله يقتضي تزكية النفس، والثناء عليها، سواء شعر القائل بذلك أم لم يشعر، فيصف نفسه أنه من الناجين، ومن المؤمنين الصادقين، ومن المخلصين، وأنه غيور على دين الله ناصح لعباده، والكبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بطر الحق وغمط الناس".
هذا الكلام المندفع المتجرئ يقال بسبب الخلاف في مسائل اجتهادية أو خلافية فيها أخذ ورد، وتعارض ظاهر في الأدلة.
وحتى لو كان ما تقوله صوابا قطعا، وما يقوله الآخر خطأ قطعا، فإن من الحكمة أن تبدأ الدعوة والحوار بدائرة المتفق عليه، كما علمنا ربنا عز وجل فقال: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)
بل علمنا الله تبارك وتعالى أعظم من هذا، فقال سبحانه وتعالى: (قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين. قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون)
فانظر كيف جاء تعبير الإجرام في قوله: (لا تسألون عما أجرمنا)، في حق الرسل والمؤمنين، وجاء تعبير العمل في حق الكفار الذين هم المجرمون في الحقيقة، وهذا من باب التنزل للخصم.
وقال الله سبحانه وتعالى: (قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا)
 وقال عز وجل: (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)

إن سكينة الإنسان، واستقرار نفسه، وهدوء لغته، وحسن عبارته، وقوة حجته؛ هو الكفيل بأن تنصاع له القلوب، وأن يصل الحق الذي يحمله إلى أفئدة الآخرين، وأن يغلب حقه باطلهم.
ومن المؤسف أن تصبح هذه الأمة محل سخرية العالم! خاصة ونحن في عصر التكنولوجيا والاتصال، حيث أصبح العالم جهازا بحجم الكف، يسمع فيه القاصي كلام الداني.
وهذا الجدل المحتدم العقيم بيننا في قضايا لا طائل من ورائها، وعلى مرأى ومسمع من القريب والبعيد، يجعل الناس يخاطبوننا بقولهم: اتفقوا أولا على الدين الذي تقدمونه لنا، والتصور والفكر الذي تنتحلونه، ثم تعالوا لدعوتنا، والتزموا بهذه القيم النظرية الجميلة التي تتحدثون عنها قبل دعوة الناس إليها، وحلوا مشكلاتكم قبل أن تفكروا في حل مشكلات العالم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة