- اسم الكاتب:عبد العزيز كحيل
- التصنيف:ثقافة و فكر
ما زال همنا ينضح بالتساؤلات المتكررة :هل نحن أمة تقرأ ؟ ما أدوات القراءة عندها ؟ وهل تقرأ لاقتحام ساحات العلم أم أنها قراءة المستريحين ؟ وأين هذه القراءة من تحديات النهضة وسياط العولمة وأسئلة الأصالة والمعاصرة ؟
القراءة والقراءة النوعية:
ما فتئ المسلمون يرددون بافتخار أن أول كلمة أوحى الله بها إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم- هي: "اقرأ" وأن ذلك يدل على مكانة العلم في الإسلام ويدحض افتراءات الخصوم حول التناقض بين الدين والعلم، ثم يسردون آيات وأحاديث تشيد بالعلم وأهله، وكل هذا جميل لكنه يبقى أقرب إلى التشبع الذاتي الأجوف ، بل والخدعة النفسية التي تجعل أمة تراوح مكانها – وربما تتراجع - وهي تظن أنها ترضي ربها لأنها تعتز بآية أنزلها !
إن حالنا مع العلم لا يحتاج إلى شرح لوضوحه وإنما يستلزم العلاج ، ومشكلتنا مع العلم معقدة، ولعل أول خيوط التعقيد أن المصلح ليس أمام معضلة تعليم من لا يعرف ولكنه يواجه طامة كبرى هي إقناعه أنه لا يعرف، وقد انتشرت الأمية الفكرية – فضلا عن الأمية ذاتها- حتى عمت الجامعات والمعاهد وشملت حملة الشهادات العليا إلا قليلا من رواد وخرجي المؤسسات الراقية والعلماء الراسخين في كل التخصصات ، ولك أن تقرأ ما ينشر من كتب ومقالات وما يلقى من خطب ودروس ومحاضرات لتتأكد من هذه الحقيقة، ذلك أن التوجيه الرباني الأول الذي لم يشر إلى أي عبادة أو خلق أو سلوك بل أشار إلى مفتاح العلم إنما يقصد القراءة الجيدة التي تؤدي إلى تحصيل المعرفة الجيدة ، لكننا مازلنا نقرأ كثيرا مما لا ينفعنا ولا ينهض بمستوانا العقلي ، فلا بد إذا من الارتقاء بنوعية ما نقرأ حتى نتحصل على القراءة المثمرة التي تزيد رصيدنا من المفاهيم المتعلقة بحسن الفهم عن الله ورسوله من جهة والنهوض الحضاري من جهة أخرى، أي يجب علينا أن نوسع قاعدة الفهم وتحسين إمكانات التفكير لتمهيد الطريق السليم للاجتهاد والإبداع ، ولأن ذلك ما يتيح الانفتاح على الجديد والمغاير من الأفكار والفلسفات.
ولا يستطيع منصف إنكار أن بعض الآراء والأقوال "العلمية" وعلى أكثر من مستوى هي مجرد إضافات مرضية من شأنها أن تجذر حالة مرضية نعاني منها منذ أمد بعيد ، تجدها بكثرة في ميدان الفتوى والتوجيه الديني كما تجدها عند العلمانيين الذين يرددون مقولات غربية قديمة وكأنها أفكار "آخر صرخة" خرجت لتوها من المخابر!
ويعود كل ذلك إلى القراءة السطحية المتعجلة التي ألفناها ونحن نقنع أنفسنا أننا قرأنا فأدينا ما علينا، وينعكس على ما يكتبه المؤلفون الذين يميل أكثرهم إلى مجرد التكرار الممل وتسويد القراطيس بعيدا عن أهداف الكتابة العلمية والكتابة النافعة، وبهذا دخلنا الدوامة التي تعصف بنا، ولو أحسنا القراءة والكتابة لفتحت لنا آفاق أرحب ولرفعنا مستوانا وقدمنا إضافاتنا النافعة للحضارة ، ولخدمنا قبل ذلك ديننا الذي أمر كتابه بالقراءة وأقسم ربه – عز وجل- بالقلم لا بالسلاح ، وجعل اسم إحدى أول السور نزولا: "القلم".
قراءة تحرسها أخلاق:
ولا تقف معاناتنا مع العلم عند هذا الحد بل هناك مظهر سلبي آخر هو عائق كبير يتمثل في انفصال العلم عن الأخلاق، وما أصدق ابن عطاء الله السكندري حين قال: "خير العلم ما كانت الخشية معه " .
فالقراءة المطلوبة – أي العلم النافع- ما ارتبطت بالأخلاق، فماذا يفيد وجود الجامعات ومراكز الأبحاث مع انتشار الانحطاط الخلقي والفساد الإداري؟
إن العلم الذي يزين الحياة هو ما كان تحرصه عقيدة وأخلاق... فهناك ردة حقيقية إلى الجاهلية تحتم علينا تجريب نفس العلاج، إذ بالعلم الذي احتفى به الإسلام تحول مركز السلطة في حياة العرب من القوة إلى المعرفة أي من البهيمية إلى العقل ومن الظلم إلى العدل ومن الهمجية إلى النظام، فلما استوت الأخلاق على صرح العلم وارتقى العلم إلى عالم الأخلاق رأينا الحكام يرضخون للعلماء، فانظر الآن إلى الانتكاسة الرهيبة وتوسع رقعة استرقاق العلم والعلماء بناء على القاعدة التي دشنها سحرة فرعون "إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين"
ولا تخفى على عين المراقب الحصيف ظاهرة تسميم الاكتشافات العلمية المتنامية لمنابع الإيمان وتشويهها المقصود أو العفوي لصورة الدين في أعين معظم الناس لظن عباد الدنيا أن هذه الفتوحات العلمية كفيلة وحدها بحل مشكلات الإنسان المادية والنفسية فلا حاجة له معها إلى "ميتافيزيقيا "، ولو أحسن المسلمون القراءة والكتابة لنجوا من هذه المعادلة الخاطئة و لأبرزوا للبشرية دور الروح في تسيير دفة الحياة.
يوغل بعضنا في النقد الذاتي إلى درجة جلد النفس ، وينبهر آخرون –أو هم أنفسهم - بكل ما هو غربي حتى يلغوا ذواتهم ويفقدوا مقاييس الحكم على الأشياء والأفكار والوقائع ويتيهوا في أخطاء فظيعة بغير تمحيص، من ذلك ما نردده من أننا لا نقرأ في حين أن الغربيين لا يتوقفون عن القراءة ،ومع إقرارنا أن القياس بيننا وبين البلاد المتقدمة هو مع الفارق - بل قد لا يوجد مجال للقياس - إلا أن الحقائق تقول إن الناس هناك يقرؤون كثيرا لكن جل قراءتهم تدور بين الروايات البوليسية والقصص الغرامية ،والفرق الوحيد بيننا وبينهم في هذا المجال –وهو هائل- أن أرباب القراءة عندهم هم – بالأساس- الجامعيون والساسة أي النخبة التي تقود المجتمع ثقافيا وسياسيا، أما الحال عندنا فيمكن أن تلحظه في زعيم يتعذب وهو يقرأ خطابا كتبوه له يتتعتع في تهجية حروفه مع أنه على كرسي الحكم من المهد إلى اللحد...
والحل؟ أمسك بالكتاب النافع ، اقرأ نوعيا وأحسن القراءة ،وأمسك بالقلم واجعله سلاحك وخط به الكلمة الصادقة المعبرة عن فكرة نافعة في الميادين الشرعية أو الإنسانية أو التقنية...بهذا نرفع تحدي العلم ونسهم في النهضة المأمولة