الشباب في ديوان الشعر العربي

0 2188

من الحقائق التي حملها التاريخ وسرت مسرى الأمثال قولهم (العرب أمة شاعرة) وكذلك قولهم (الشعر ديوان العرب). ولا عجب في ذلك، فهم من أكثر الأمم شعراء، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرا.

وقد حفظ الشعر تاريخ العرب وأيامهم، وعاداتهم وتقاليدهم: في أفراحهم وأتراحهم، في منشطهم ومكرههم، في سرائهم وضرائهم، وكان الشعر بحق هو مثلهم الأعلى تصويرا وتعبيرا.

وفي دروب (ديوان العرب) نعيش مع ما جادت به قرائح الشعراء في (الشباب)...

والشباب، كما يقولون، هو ربيع العمر؛ لأنه يمثل الفترة الزمنية الزاهية في حياة الإنسان إنه مرحلة القوة والفتوة.
وهو مرحلة الحماسة والتوهج.
وهو مرحلة النشاط والتوقد.
وهو مرحلة التفتح والنباهة.

لذلك قال أحد بلغاء العرب القدامى:
"الشباب باكورة الحياة، وأطيب العيش أوائله، كما أن أطيب الثمار بواكيرها، وما بكت العرب على شيء كما بكت على الشباب، وما بكى الشعراء من شيء كما بكوا من المشيب ".
إن أول من يطالعنا من الشعراء في ديوان العرب هو الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، الذي نسمعه معتزا بشبابه، مفتخرا بقوته وفتوته:
أنا الفتى الضرب الذي تعرفونه .. .. خشاش كرأس الحية المتوقد
ويقول الشاعر:
إذا قيل: من فتى؟ خلت أنني .. .. عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

والإنسان ما تمنى أن يدوم شيء في حياته كتمنيه دوام الشباب، بما فيه من نضرة وحيوية، وقدرة على تذوق مباهج الحياة، فلا عجب أن يقول الشاعر اللبناني فؤاد عمون:
سـلام عـليك زمــان الشــباب .. .. ربـيـع الـحـيـاة بآذارهـــا
لأنـت مـخــفـــف أحـــزانــهـا .. .. وأنـت مـسـوغ أكـدارهــا
ولولا الشباب وذكرى الشباب .. .. لعاش الفتى عمره كارها

وإذا كان الشباب كما يرى الشاعر فؤاد عمون هو ربيع الحياة، ومخفف أحزانها، ومانح القدرة على تحمل أكدارها ومتاعبها. فإن ابن الرومي يبرز فضيلة أخرى من فضائل الشباب، وحسنة من حسناته خلاصتها: أن الشباب بذكرياته الطيبة الممتعة يغرس في نفس الإنسان الولاء والحب لوطنه، والتعلق الدائم بداره، يقول ابن الرومي:
ولـى وطـــن آلـــيت ألا أبيــعه .. .. وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة .. .. كنعمة قوم أصبحوا في ظلالـكا
وحبب أوطـان الرجـال إليهـمو .. .. مـآرب قضـاها الشباب هنالـكا
إذا ذكـروا أوطانهـم ذكرتهمــو .. .. عهـود الـصـــبا فحــنـوا لـذلكا

ويتركنا ابن الرومي لنلتقي في (ديوان العرب) بالشاعر الفارس الأسير أبي فراس الحمداني، في قصيدة يعاتب فيها ابن عمه سيف الدولة أمير حلب، لتأخره في افتدائه من الأسر، ويذكر ابن عمه بشبابه الذي قدمه وأضناه في مدافعة أعدائه ومواجهتهم:
وهـبت شبابي والشباب مضـنة .. .. لأبـلـج مـن أبنــاء عمي أروعــا
 أبيـت معنى من مخــافة عــتبه .. .. وأصبح محزونا، وأمسي مروعا
فـلما مضى عصر الشبيبة كـله .. .. وفـارقـني شــرخ الشــباب مودعا
تطلبت بين الهجر والعتب فرجة .. .. فحـاولـت أمــرا لا يــرام ممــنعا

ويقرأ الشاعر أحمد شوقي قول من يقول إن الشيب رمز الحكمة، والرفعة، فيرفض هذه المقولة ويتصدى لها بقوله:
وما الشيب من خيل العلا فاركب الصبا .. .. إلى المجد تركـب متن أقــدر جوال
يســـن الشـــباب البــأس والجـود للـفتى .. .. إذا الشيب سن البخل بالنفس والمال

لذلك عاش شوقي وفيا لشبابه، يسترجع ذكرياته، ويستدعي بروحه أحلامه، وحلاوته، بعد أن علاه الشيب، وزحف إليه خريف العمر:
خلق الشباب ولا أزال أصـونه .. .. وأنا الـوفي مودتي لا تخـلق
صاحبته عشرين غير ذميمة .. .. حالي بها حال وعيشي مونق

ويلتفت بالحديث إلى قلبه قائلا:
قلبي ادكـــرت اليوم غــير موفـق .. .. أيام أنت مع الشــباب موفــق
فخفقت من ذكرى الشباب وعهده .. .. لهفي عليك :لكل ذكرى تخفق
كم ذبت من حرق الجوى واليوم من .. .. أسف عليه وحسرة تتحرق
هـــل دون أيام الشـبـيــبة للـفــتى .. .. صفـو يحيط به وأنـس يحــدق

ولكن الشريف الرضي ينظر إلى الشباب من زاوية أخرى فيرى أن من مساوئ الشباب، وبتعبير أدق: من مساوئ الإنسان أنه في شبابه يغفل عنه، ويفرط فيه، ولا ينتفع بمحاسنه على الوجه الأكمل، ومن أسف أنه لا يتذكر جنايته هذه في حق شبابه إلا في مشيبه وشيخوخته، ولات حين مندم:
لا تـلح من يبــكي شــبيبـته .. .. إلا إذا لـــم يـبـكـهـا بـــدم
عيب الشبيبة غول سكرتها .. .. مـقـــدار ما فــيها من النعم
لـسـنا نراهــا حــق رؤيتها .. .. إلا زمـــان الـشـيب والهرم
كالشمس لا تبــدو فضيلتها .. .. حتى تغشى الأرض بالظلم
ولــــرب شـيء لا يـبــيـنه .. .. وجــدانـه إلا مـع الـــعــــدم

وبعد فوات الأوان لا يجدي الندم، كما يقول الحكيم العربي: (الندم بعد الفوت حسرة وألم).
وفي هذا المعنى يقول الشا عر العربي:
عريت من الشباب وكنت غصنا .. .. كـمـا يعرى من الورد القضيب
ونحت على الشـباب بدمع عيني .. .. فـمـا نـفع البــكاء ولا النــحيب
فـيـالـيت الشــباب يعــود يــوما .. .. فـأخـبـره بـما فـعـل المــشــيب

وفي هذا السياق أنبه إلي أن لكلمة الشباب استعمالين: فهي تستعمل كما عرفنا بمعنى مرحلة القوة والفتوة، والنضارة في حياة الإنسان.

أما الاستعمال الثاني لكلمة الشباب فهو أنها جمع شاب، وهو من يعيش مرحلة الشباب، ولا شك أن الشباب بالمفهوم الثاني هم ذخيرة الأمة، وعنوان قوتها، وبناة مستقبلها، فهم "رجال الغد" الذين يتهيئون لتحمل المهام الصعبة، والمسئوليات الجسام، وإلى الشباب: رجال الغد يوجه الشاعر حافظ إبراهيم هذه الرسالة:
رجال الغد المــأمول إنا بحــاجة .. .. إلى قـــادة تبني وشــعب يعــمر
رجال الغد المــأمول إنا بحــاجة .. .. إلى عـــالم يـــدعو وداع يذكـــر
رجال الغد المــأمول إنا بحــاجة .. .. إلى عـــالم يــدري وعــلم يقـرر
رجال الغد المــأمول إنا بحــاجة .. .. إلى حكــمة تمــلى وكف تحــرر
رجال الغد المــأمول إنا بحــاجة .. .. إليكم فسدوا النقص فينا وشمروا
رجال الغد المأمول لا تتركوا غدا .. . يمر مرور الأمس والعيش أغبر
رجال الغد المــأمول إن بلادكـم .. .. تناشــدكــم بالله أن تتـــذكــتروا
عليــكم حــقوق للـــبلاد أجلـــها .. .. تعهد روض العـلم فالروض مقفر
قصارى منى أوطانكم أن ترى لكم .. يدا تبــتنــي مجـــدا ورأسـا يفـــكر
فكــونوا رجــالا عامــلين أعزة .. .. وصونوا حمى أوطانكم وتحرروا

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة