الباريء

0 1924

امتن الله على عباده فقال: { إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون} (الأنعام:95)، فهو سبحانه وتعالى الذي شق الحب من كل ما ينبت من النبات، فأخرج منه الزرع، وشق من كل ما يغرس مما له نواة، فأخرج منه الشجر، وأوجد الحياة من العدم، فهو الخالق البارئ المصور سبحانه وتعالى .

الأصل في الاشتقاق

يعود أصل كلمة "الباريء" إلى الفعل برأ، تقول العرب: برأ الله تعالى عباده يبرؤهم برءا، بمعنى: خلقهم، والباريء اسم فاعل بمعنى: الخالق؛ ومن قبيل هذا الاستخدام اللغوي قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما كان يحلف: " لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة"، وكذلك قول الشاعر:

وكل نفس على سلامتها ... يميتها الله ثم يبرؤها

ويقال: بريت العود أو القلم أبريه بريا، والمعنى: نحته وحددته، ويسمى الذي يسقط منه إذا بري: البراية.

ويذكر علماء اللغة أن الباء والراء والهمزة لهما معنيان أصيلان، الأول: الخلق، فالله سبحانه وتعالى برأ الخلق يبرؤهم برءا، وهو الباريء، وقد وصفه بذلك نبي الله موسى عليه السلام في قوله: {فتوبوا إلى بارئكم} (البقرة: 54)، وجاء في سورة الحديد قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} (الحديد: 22)، وتأويلها: من قبل أن نبرأ الأنفس ونخلقها، كما ذكر ذلك أهل التفسير.

والبرية هم الخلائق، ومنه قوله تعالى: { أولئك هم شر البرية} (البينة:6)، بمعنى: شر الخليقة.

وأما المعنى الثاني: التباعد من الشيء ومزايلته –مأخوذ من الزوال-، ومن استخدامات هذا المعنى وصف زوال المرض من المريض بأنه برء منه، فيقال: برئت من المرض، وبرأت، أبرأ برءا.

وفي كتب السنة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما خرج من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجعه الذي توفي فيه، سأله الناس: : يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، فقال: أصبح بحمد الله بارئا، رواه البخاري، أي معافا من مرضه الذي كان يشكو منه.

والبراءة تحمل معنى المفاصلة والمباعدة، وعلى ضوء ذلك نفهم قوله تعالى: {إنني براء مما تعبدون* إلا الذي فطرني} (الزخرف:26-27)، وقوله تعالى: {برآءة من الله ورسوله} (التوبة: 1)، وكذلك نفهم وصف العرب لأول ليلة من الشهر القمري بأنها: ليلة البراء؛ لمزايلة القمر عن السماء تلك الليلة واختفائه.

ومن أمثلة هذا الاستخدام ما رواه مسلم في صحيحه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتنفس في الشراب ثلاثا، ويقول: (إنه أروى وأبرأ وأمرأ) والمعنى مأخوذ من المزايلة والمباعدة، فيكون مقصود اللفظة النبوية: أن الشرب بهذه الكيفية أكثر إرواء للنفس وإبعادا للعطش.

وأما الاستبراء، وهو المصطلح الذي يذكره الفقهاء كثيرا في أبواب الطهارة، فالمقصود به أن يستفرغ المكلف بقية البول، وينقي موضعه ومجراه حتى يبريهما منه، أي يبينه عنهما، ويحقق بذلك الطهارة الكاملة.

المعنى الاصطلاحي

من خلال المعاني اللغوية السابقة يمكن فهم معنى اسم الله "الباريء" بأنه الموجد والمبدع والخالق سبحانه وتعالى، وذلك بالعودة إلى أن معنى برأ بمعنى خلق، وأن من معاني هذا الاسم العظيم: فصل الخلائق بعضهم عن بعض والتمييز فيما بينها، أخذا من معنى المزايلة والمباعدة.

يقول الشيخ السعدي: "البارئ، الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسواها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزل ولا يزال على هذا الوصف العظيم".

ويبقى معنى ثالث ذكره بعض العلماء، وهو أن البايء سبحانه، هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت، قال سبحانه وتعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (الملك:3)، والمعنى كما يقول ابن كثير: "ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا مخالفة، ولا نقص ولا عيب ولا خلل".

أدلة هذا الاسم من النصوص الشرعية

ورد اسم الله الباريء في قوله تعالى: {هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} (الحشر: 24).

وورد مرتين متتاليتين وصفا، في قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} (البقرة:54).

العلاقة بين الخلق والبرء

يظهر من المعاجم اللغوية وقواميسها الاشتراك المعنوي بين الكلمتين قد يصل إلى حد التطابق، إلا أن بعض العلماء يفرقون بينهما في الاستخدام، فقد قال ابن الأثير: " ولهذه اللفظة –أي الباريء- من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلما تستعمل في غير الحيوان، فيقال: برأ الله النسمة، وخلق السموات والأرض" ومقصوده بالحيوان ما كانت له روح دون سائر الجمادات.

آثار الإيمان بهذا الاسم

كل العاملين بقول الحق تبارك وتعالى: { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} (يونس:101)، والممتثلين لأمره بالتدبر والتفكر، يرون إتقان الخالق في خلقه، وإحكامه في صنعه، فيزدودان له خشية وإخباتا، ونحن نرى في كتاب الله أن آية: { إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر:29) قد سبقها تذكير بمظاهر القدرة الإلهية على الخلق والبرء: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك} (فاطر:27-28)، مما يدل على أثر التفكر في ازديدا الخشية، والتفكر لا يكون إلا بالعلم بما يستوجبه الكمال الإلهي من العظمة والقدرة.

وإذا كانت البراءة فيها من معاني المباعدة والمفاصلة، تفيأت ظلال هذا الاسم على العبد، فقاده ذلك إلى البراءة من الشرك والنفاق، والمباعدة عن المعاصي، وتهذيب النفس من سيء الأخلاق والأقوال والأفعال، وجعله ذلك يزن الخلق بميزان الحق، فيواد من أطاع الله، ويعادي من حاد الله ورسوله، كما كان نبي الله إبراهيم عليه السلام الذي أعلنها صراحة لقومه: {إنني براء مما تعبدون* إلا الذي فطرني } (الزخرف:26-27).
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة