الحق هو الأقوى دائماً

0 1089

الكلمة الصادقة مفتاح العقل، وملاك النفس، وقائد الفكر، ومحرك العزم، ووقود القوة، ولأن الإنسان مميز بالنطق فهو مفضل بالتأثير، ولأنه مزود بالعقل فهو معد للقيادة، ولأنه مخصوص بالفكر فهو معلم للحكمة، ولهذا فقد استحق التكريم من ربه، واستأهل الخلافة عن خالقه، وأعطيت له مفاتيح المعرفة، وعلم الأسماء كلها، وسخرت له العوالم، وفتحت أمامه الأسرار، وكان الوحى له كتابا، وخطاب الله له رشادا، وهداية الله له الكلمة، ووحى الله له ألفاظا، ودستور الله لحياته قرآنا.

ولأن الله علمه البيان فقد أناط به بلاغ الدعوة، وكلفه بحمل الرسالة، وأمره بتنفيذ المنهج بالحكمة والموعظة الحسنة، ووجهه لفتح مغاليق القلوب بالبرهان والإقناع، والحجة والمنطق، وجعل أصل الإيمان بالشهادة، وملاكه الإقرار بـ(لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وصير الكلمة ناطقة بأعماله، وأعطى للإنسان كتابا شاهدا عليه، فكان لسانه ملاكه، وجنته وناره، "وهل يكب الناس فى النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!".

ومن يعرف متى يضع كلمته يغنم، ومن يلقى القول على عواهنه يندم، ومن أطلق لسانه فى بيان حاجته، وأبان بلفظه ما يقصد بوجهته فاز بالحسنى، وألزم بحجته، فقد قال بعض الحكماء يدعو إلى تدريب اللسان على البيان والإفصاح عن البغية: (اللسان عضو فإن مرنته مرن، وإن تركته حرن)، ومن لا يعرف كيف يوجه لسانه أو يؤدب بيانه، أو يحسن خطابه، كبا كبوة أليمة، وعثر عثرة مشينة تكشف عن جهله وانحدار فكره، وقد لا ينجو منها، وصدق من قال:
وجرح السيف تأسوه فيبرأ *** وجرح الدهر ما جرح اللسان
جراحات الطعان لها التئام *** ولا يلتام ما جرح اللســان .

وقد قال أكثم بن صيفى: (مقتل الرجل بين فكيه). وقيل : تكلم أربعة من دهاة الملوك بأربع كلمات كأنما رميت عن قوس واحد: قال كسرى: (أنا على رد ما لم أقل أقدر منى على رد ما قلت). وقال ملك الهند: (إذا تكلمت بكلمة ملكتنى وقد كنت أملكها).
وقال قيصر: (لا أندم على ما لم أقل، وقد ندمت على ما قلت) وقال ملك الصين: (عاقبة ما جرى به القول أشد من الندم على ترك القول).
وخطر الكلمة سلبا أو إيجابا كبير، وتأثيرها في الأمم والأفراد عظيم، وأقدم سلاح فى الحروب هو سلاح الكلام:
فإن النار بالعودين تذكى *** وإن الحرب أولها الكلام
فمما لا ريب فيه أن الأسلحة الحاضرة لم تكن موجودة، يوم أن كان سلاح الكلام موجودا وله أثره ومضاؤه، فقد استعان به أصحاب كل دعوة، وأصحاب كل مذهب قبل استعانتهم بالسيوف والسهام، ووقف الشجعان أمام الجيوش يرهبونهم بالكلام، ويغزونهم باللسان قبل السنان.

واليوم أصبح نشر الدعوات فنا من أدق الفنون وأحوجها إلى البلاغة والمعرفة والدراية، وأصبحت قدرة الدولة على نشر دعوتها مساوية لقدرتها على إعداد سلاحها، وتنظيم جيوشها، وأضحت دبلوماسيتها أوفق وأجدى من آلتها الحربية، وإقناعها لشعبها وسياستها لأفرادها أفضل من شرطتها ومخابراتها، يستوى في ذلك من كان على حق ومن كان على باطل، لأن الحق كثيرا ما يكون كالدواء المجهول، ولا بد للدواء النافع من عالم يهدى إليه، وطبيب يوصى به، ونصيحة تسوغه وتهيئ له القبول، وقد احتاج الناس بدون الحق إلى ألوف السنين للتمييز بين دواء الطب الصادق ودواء الطب الكاذب، مع أن الأثر قريب الظهور في الأجسام، وبين الأعراض في الإنسان، فما أحوجنا إلى التمييز بين الصحيح والكاذب، والصالح والفاسد، من الدعوات والأفكار والمذاهب، وهى عرضة للتشابه والاختلاط، وبهذا يتبين لنا آثار نعمة الهداية الربانية، وأفضال رعاية الله لنا بالوحى الإلهي، حيث اختصرت الجهود، وطويت الســنون، ووفرت التجارب، بتمام النعمة، ووضوح الطريق.

قال ربنا سبحانه وتعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة: 3). وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) (الأنعام: 153).
وكانت هذه وصاة كل نبي وكل رسول لتنعم البشرية بالهداية، ويسعد الفرد بالتعاليم، والعمر قصير، والدهر يمر، وتضيع الآجال: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون* أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) (البقرة: 132، 133).

وكان دائما تبليغ الرسل للهدايات بالكلمة والإقناع بالحجة والمنطق، قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل: 125)، وما نزلت رسل ومعها طائرات، ولا جيوش، ولا أسلحة، ولكنها نزلت ومعها الكلمة والحكمة التي هي ضالة المؤمن، وكان" محمد صلى الله عليه وسلم " هو رسول الكلمة المعجزة، واللفظة المسكتة، التي تحدت فصحاء البلاغة، وكانت هذه نعمة للداعية والرسول لا تعدلها نعمة، وصدق الله: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) (النساء: 113).
ولقد كونت الأمة الإسلامية ودخل الناس في دين الله أفواجا، وشرق الإسلام وغرب بالحكمة والبيان والفهم والعرفان والموعظة الحسنة، وكان صحابة الرسول فرسان الكلمة، وأرباب الحجة، قال يهودي لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: ما لكم لم تلبثوا بعد نبيكم إلا خمس عشرة سنة حتى تقاتلتم؟ فقال على كرم الله وجهه: ولم أنتم؟ لم تجف أقدامكم من البلل حتى قلتم: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.

وقال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة!! فقال الرجل: أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) (الأنفال: 32)، ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه.
وخطر الكلمة عند من يعرفها لا يعدله خطر، ولهذا كمم الظالمون الأفواه، وقطعوا الألسنة، وأغلقوا الصحف، واستولوا على الإعلام، ولكنهم لن يستطيعوا أن يسكتوا كل صوت، أو يحبسوا كل كلمة، فلا بد أن نتعلم لغة الكلام، ونحارب الظلم بسلاح الفكر.
وكان بعض الدعاة يرفض العنف، ويقول: [ما حاجتنا إلى المسدس ولنا لسان؟! وما حاجتنا إلى القنبلة ودوى صوت المظلوم أعلى من انفجار الديناميت؟! نحن دعاة ولسنا قضاة].

فهل يتعلم الدعاة فن الكلمة حتى يسودوا ويقودوا؟ وهل يرجعون إلى طريق الأنبياء والمرسلين حتى يتصل الركب، وتسعد البشرية بالأمن والراحة في رحاب الإيمان، ويعرفوا الفرق بين الهداية والفساد، والظلم والعدالة، والضلال والإيمان؟
ولا يهولنهم حقد عدو ولا افتراءات مفترى على الإسلام أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعمال الرسول وأفعاله المبهرة أضاءت الطريق للبشرية، وهدت العقول الإنسانية إلى الطريق القويم، وما زالت المنارة الوحيدة اليوم التي يحتاجها العالم في كل درب وتتطلع إليها الإنسانية في كل فج عميق، ولكنها تحتاج إلى بيان حتى يظهر ضياؤها، وإلى دعاة وأعلام حتى تنمو بذرتها وتخرج ثمرتها.

إن عدونا يريد فتنتنا وتضليلنا بالغزو الفكري الضال، ويرصدون لذلك المبالغ الطائلة حتى تصل رسالتهم إلى الهدف الخبيث، ونحن نكتفى بالصياح والهياج الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع، وكنا نتمنى من علمائنا ومفكرينا في العالم العربي والإسلامي أن يقوموا بتعريف الناس برسالة الإسلام ورسول الإسلام الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، حينها وحين ذلك سيدخل الناس في دين الله أفواجا بدل العداء الجاهل والحقد الأعمى الذى يضل الطريق ويعمى الأبصار، وأضواء الرسالة ونبل التعاليم وشرف الهداية كفيل بهداية الضالين وإرشاد الحائرين.

كما كنا نتمنى من أثرياء العالم العربي والإسلامي أن يمولوا حملة تستطيع أن تظهر هذا الفتح، ويقوم كل إنسان منا بدوره الصحيح في البلاغ والبيان بالحجة والمنطق والموعظة الحسنة كما نبه الإسلام من قبل حين قال: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} وبهذا نكون قد قمنا بدورنا الصحيح بالشكل الذى يحقق النفع ويمنع الضرر عن الآخرين والله نسأل أن يوفق وأن يعين وأن يوجهنا إلى ما يحب ويرضى.. 
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة