منهج القــرآن الكريم في التشريع والتكليف

0 1066

لقد رفض زعماء المشركين دعوة التوحيد لأنها تصطدم بمناصبهم ومصالحهم، فقد كانوا حريصين على حقهم في التحليل والتحريم ظنا منهم أنهم الأعلم والأجدر بجلب المصالح لقومهم ودرء المفاسد عنهم، كما ظنوا أن دخولهم في الدين الجديد سيجلب عليهم التخطف والفقر {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}، وهي مقولة كاذبة وحجة واهية {أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون}.

ولما نزل حكم منع المشركين من دخول مكة زعموا أن هذا الأمر سيضر بمعايشهم (بحالتهم الاقتصادية)؛ لأن مكة ستغلق أبوابها في وجوه الزائرين (السائحين!)، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الـمشركون نجس فلا يقربوا الـمسجد الـحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم} ، ولا شك أنهم ناقضوا أنفسهم - أيضا - في هذه الذريعة؛ لأنهم مقرون بخصائص الربوبية ومنها الرزق، وهو الورقة التي يتاجر بها الزعماء ويزايدون بها!
أما حقيقة أمرهم فهم رافضون لخصائص الألوهية؛ وهي أن حق التشريع إنما هو لله – تعالى – وحده، لذا كان مدخل النبي صلى الله عليه وسلم في دعوتهم هو قوله (قولوا "لا إله إلا الله" تملكوا بها العرب وتدفع لكم بها العجم الجزية)، وكان وقع كلامه عليهم شديدا، فلم يقبلوه وعادوه وعاندوه، وما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى ملكوا العرب، ودفعت العجم الجزية، وأغناهم الله من فضله، ورزقهم رزقا كريما، ومن عليهم بالنعم والمنعة.
ومن هنا كانت أهمية البدء بترسيخ معنى "لا إله إلا الله"، والثبات عليها، وبيان مقتضياتها؛ وأولها: أن حق التشريع إنما هو لله عز وجل وحده، والحكم له لا لغيره من الأشخاص أو الهيئات أو اللجان {إن الـحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ، وهذا هو المدخل والمنهج الأساس في التشريع والتكليف، وقد استغرقت قضية التوحيد أكثر من نصف عمر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، كما استغرق شرحها أكثر سور القرآن عددا (86 سورة مكية)، وعلى ذلك يمكن إلقاء الضوء على منهج القرآن في التشريع والتكليف فيما يلي:

- ترسيخ مفاهيم توحيد العبودية:
فالعبادة هي الطاعة في التشريع، قال تعالى عن أهل الكتاب {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} ، وقد ذكر المفسرون قصة عدي ابن حاتم لما سمعها قال يا رسول الله: نحن لا نعبدهم! قال: أليسوا يحلون لكم ما حرم الله ويحرمون عليكم ما أحل الله فتتبعوهم؟ قال: بلى. قال: فذلك عبادتكم إياهم.
فكان من معاني العبادة الطاعة في التشريع، ومصدر التكليف لا يكون إلا من الله؛ فمن له الخلق له الأمر {ألا له الـخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} .
فالإله المعبود (المشرع المطاع) ليس الملأ (السادة والقادة وأعضاء المجالس!!) ولا الهوى ولا علماء السوء؛ كما بينت سورة الأعراف وأمثالها من سور القرآن، وحق الإله المعبود أن يكون هو الحكم وفيه الولاء وله النسك؛ كما بينت سورة الأنعام في قوله تعالى: {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا} ، وقوله: {قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم} وقوله {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له} ، وتمام ذلك وكماله أن تكون العبادة خالصة له من دون الناس وأغراض الدنيا؛ كما في سورة الزمر، قال تعالى {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالـحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الـخالص} ، وسورة البينة في قوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}

- التهيئة لقبول التشريعات:
وهو ما تميز به القرآن المكي، فقد كانت التهيئة للجهاد بفرض الجهاد بالقرآن {وجاهدهم به جهادا كبيرا} ، وجهاد النفس {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} ، وتزكيتها {قد أفلح من زكاها} ؛ وهي سور مكية.. كما كانت التهيئة لفرض الزكاة بالترغيب فيها وبيان فضل معطيها {والذين هم للزكاة فاعلون} ، وهي سورة مكية.

- نزول القرآن منجما:
أي مفرقا سورة سورة وآية آية حسب المناسبة وظروف المرحلة، قال تعالى {فلا أقسم بمواقع النجوم} ، أي مواقع نزول القرآن، وقال تعالى {والنجم إذا هوى}
أي القرآن إذا نزل؛ وهذا يسهل العمل بالأحكام، لأن نزول التشريعات جملة واحدة مما لا يطيقه الناس، وهو أيضا من الحكمة القاضية بالتدرج في فرض الأحكام والتكاليف، كما يعين ذلك على ترك المألوفات القديمة، والتخلي عن عادات الجاهلية وموروثاتها المتجذرة في العقول والقلوب، فلم تنزل تكاليف إلا بعد أن صار تأثير الإيمان وسلطانه أقوى من تأثير المألوفات وسلطان الموروثات!!.. {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الـخبير}.

- ربط التكاليف بالتقوى:
فإنما تظهر التقوى وتتجلى في التعامل مع الأحكام، وإن الخضوع للأحكام دليل التقوى، كما أن التقوى هي ثمرة أداء التكاليف، ونجد هذا الربط واضحا في سورة البقرة، وهي تمثل أولى مراحل التشريع في المدينة المنورة بعد الهجرة. وجدير بالذكر أنه تكرر ذكر التقوى والأمر بها في السورة أكثر من ثلاثين مرة، وأضرب لذلك بعض الأمثلة في السورة الكريمة:

-العبادة والتقوى:
قال تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} ، فالتقوى ثمرة الطاعة وأداء التكاليف وهو معنى العبادة.
-التقوى وآيات القصاص:
ومنها قوله تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}، يقول القرطبي: "المراد تتقون القتل فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك؛ فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة..".
-الصيام والتقوى:
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}. وبعد آخر آية من آيات الصيام وفي آخرها {لعلكم تتقون} جاء قوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ، فالصوم عبادة تثمر التقوى، وإنما تتجلى التقوى في أحكام المعاملات كالبيوع؛ وهذا ما أثبته البخاري – رحمه الله – في تبويبه، فقد ذكر كتاب البيوع بعد كتاب الصوم وصلاة التراويح والاعتكاف، للتنبيه على أن من صام وقام واعتكف فلا يأكل مال الناس بالباطل ولا يكسب حراما.

-آيات القتال والتقوى: وهي ست آيات تأمر بالقتال ورد العدوان:
كما تأمر بالتقوى في ممارسة أحكام القتال والنهي عن تجاوز الغرض منه، وأنه حال الالتزام بالتقوى فإن ثمرة ذلك معية الله وهي الجالبة للنصر، قال تعالى: {الشهر الـحرام بالشهر الـحرام والـحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع الـمتقين}

-التقوى وأحكام الأسرة من زواج ومعاشرة وشقاق وطلاق:
حيث تكرر ذكر التقوى والأمر بها خمس مرات لأهميتها وضرورتها في مثل هذا النوع من المعاملات، وكان الأمر الأول قوله تعالى {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله}.

-التقوى وآيات أحكام الربا والتداين:
فقد تكرر ذكر التقوى خمس مرات، ومنها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} ، ويتجلى الربط في أن التقوى هي المحرك والدافع لترك التعامل بالربا، وأن ذلك هو المانع من حرب الله ورسوله(وهو العقاب الدنيوي) لمن لم يمتنع عن التعامل بالربا، كما أن الآكل للربا لم يتق العقاب يوم القيامة، وهو ما جاء في قوله تعالى {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من الـمس} (وهو العقاب الأخروي).

- تبشيع أمر المحرمات وتغليظ العقوبة:
ففي أمر الزنا {إنه كان فاحشة وساء سبيلا، وفي عقوبته {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة} وفي عقوبة القاذف بغير أربعة شهود {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون}.

- بيان أن ما شرعه الله تعالى وكلف به هو ما يحقق السعادة والفلاح والخير للمكلفين في الدنيا والآخرة، وأن الاستجابة الفورية القوية الكاملة لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم، هي الطريق لتحقيق الحياة الكريمة؛ وهي حياة العزة في الدنيا، وحياة النعيم في الآخرة، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لـما يحييكم}. وفي الآية التي تليها بيان أن عدم الاستجابة جلب للفتنة التي تصيب العامة والخاصة؛ وهي سيادة الشرك وتسلط الظلمة وغياب العدل وضياع الدين {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}.

ومن هنا فقد تبين أن منهج الإسلام في التشريع يتفق مع فطرة الإنسان وطبائع البشر، ويسهل لهم قبول التشريعات، وييسر للناس الاستجابة للتكاليف، كما يرفع عنهم الحرج والمشقة، ويأخذ بأيديهم لما يحقق مصالحهم ويجلب لهم الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومما لا شك فيه أنه لا يوجد تشريع وضعي ولا قانون بشري يتسم بالعدل والرحمة واليسر والإنصاف كما في شرع الله، والدليل على ذلك أن تلك التشريعات والقوانين متغيرة؛ فتارة توضع حلا لوضع قائم أو لمشكلة طارئة ثم تزول بزوال المشكلة، ثم توضع تشريعات أخرى... وهكذا، فلا ثبات لتلك التشريعات! وتارة لتحقيق مصلحة لطبقة دون طبقة أو لنصرة طائفة على أخرى، ولهذا لا يتعامل معها الناس بالرضا والقبول.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة