والشر ليس إليك

0 1812

يعتقد المؤمنون الموحدون بأن القدر كله من الله عز وجل: خيره وشره، فكل شيء بقضاء وقدر، سواء ما ارتآه الناس خيرا، أو ما اعتبروه شرا، ولا يخرج حدث من أحداث الكون عن منظومة القضاء والقدر، وإلا لكان لزاما أن يقع شيء في الكون دون إرادة الله سبحانه وتعالى الشاملة، ومشيئته النافذة.

إذا كان الأمر كذلك، فإن سؤالا مهما وملحا يتعلق بالموضوع، ويرد في الأذهان بين الحين والآخر، ويقول هذا السؤال: إذا كان يقع في الكون شرور وأمور لا تحمد، فهل يجوز لنا أن ننسبها إلى الخالق جل وعلا؟ أو أن نجوز القول بأن في أفعاله –والعياذ بالله- شر؟

في الحقيقة هذه المسألة في غاية الدقة، تحتاج إلى استيعاب لتفاصيلها، وإدراك لمضامينها، وموطن الحق فيها، فإن أقواما زلوا بسببها، حتى أدى بهم نفيهم للشر بإطلاق إلى القول بأن العباد الذين يفعلون أفعال السوء –وكل الناس يقعون في الزلل والخطأ ولا بد- خالقين لأفعالهم!، وقالوا: " إنه لا يخلق أفعال العباد، ولا يشاء كل ما يكون؛ لأن الذنوب قبيحة، وهو سبحانه لا يفعل القبيح" فأوصلهم نفي تقدير هذه الأمور إلى جعل العباد خالقين لأفعالهم، ولا يخفى ما لهذا القول من منافاة لمقتضى تفرد الله تعالى بالربوبية والخالقية.

وللجواب عن مسألة "نسبة الشر إلى الله تعالى" وبيان الحكم فيها، علينا أن نستحضر كمال الله تعالى وحسن صفاته وأفعاله، فمن أسمائه: القدوس، وهو المعظم المنزه عن صفات النقص كلها، وكذا اسمه: السلام، وهو السالم من كل نقص، ووجه ذلك كما يقول ابن القيم: سلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو السلام الحق بكل اعتبار، فهو سبحانه سلام في ذاته ، وسلام في صفاته ، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص، وشر وظلم، وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار.

وإذا كانت متعلقات القضاء والقدر كما هو معلوم: علمه سبحانه، وكتابته لما علمه، ومشيئته، وخلقه، فليس في ذلك كله شر، بل هي خير محض؛ لأنها كلها تعتبر من أفعال الله جل جلاله، وأفعاله كلها كمال من كل الوجوه، ليس فيها شائبة نقص، فلا يمكن أن يكون فيها ظلم أو سوء أو غيرها من أوجه النقص.

ولأن كل أوصافه سبحانه وتعالى أوصاف كمال، وكل أفعاله حكمة ومصلحة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد تقرير هذه المسألة في صلواته، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) رواه مسلم في صحيحه.

وبمقتضى الحديث السابق فإن أفعال الله متمحضة بالخيرية، فلا ينسب إليه الشر إليه مفردا أبدا، والشر لم يضف إلى الله في الكتاب والسنة إلا على أحد وجوه ثلاثة: إما أن يدخل في عموم المخلوقات، كقوله تعالى: {وخلق كل شيء} (الأنعام: 101)، وإما أن يضاف إلى السبب، كقوله تعالى: {من شر ما خلق} (الفلق: 2)، وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن: {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} (الجن: 10).

ومن هنا يعلم كمال أدب الأنبياء والمرسلين، فإن الخضر عليه السلام عندما خرق السفينة وفعل فيها ما ظاهره فعل سوء، قال مخبرا: {وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها} (الكهف: 79)، ولم يقل: "فأراد ربك أن أعيبها"، بينما قال في الغلامين: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما}، (الكهف/ 82)، ونجد إبراهيم عليه السلام يستدل على ربوبية الخالق سبحانه بأفعاله فيقول: {الذي خلقني فهو يهدين* والذي هو يطعمني ويسقين* وإذا مرضت فهو يشفين} (الشعراء: 78- 80)، فعندما جاء إلى مسألة المرض نسب المرض إلى نفسه، ولم يقل: "وإذا أمرضني" حفظا للأدب مع الله تعالى.

يقول ابن القيم: " وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره خير كله ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه كما تقدم فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وذلك خير كله والشر وضع الشيء في غير محله فإذا وضع في محله لم يكن شرا فعلم أن الشر ليس إليه وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك".

ونخلص مما سبق، أن أفعال الله تعالى لا ينسب إليها الشر، وهذا يقودنا إلى مسألة نسبة الشر إلى مخلوقاته، وهذا جائز لا إشكال فيه، فالسبع كمخلوق من مخلوقات الله يصدر منه الشر والاعتداء على غيره، فهو شر في المخلوق، وكذلك تجوز نسبة الشر في المقضي، لا في قضاء الله، لأن قضاء الله تعالى هو فعله، وأفعال الله كلها خير، ومثاله: تقدير الآلام على العباد، فالمقدر شر، أما تقدير الله تعالى لهذا الشر على العبد هو خير.

لكن ينبغي أن يعلم أن مخلوقات الله تعالى ليس فيها شر محض، فإنه لا يخلق شرا محضا، بل كل ما يخلقه فيه حكمة هو باعتبارها خير، لذلك فإن تقدير البلاء على العبد كان لأجل الاختبار والامتحان وزيادة الحسنات للصابرين المحتسبين، فهو بهذا الاعتبار خير.

ولو تأملنا جميع ما يصفه الناس بأنه شر لوجدنا في مآلاته خير وفلاح، وتحقق مصالح إما للعبد نفسه وإما لغيره، وما كان فيه شر من وجه، ففيه الخير من وجوه عديدة، لا يدركها إلا أولو الألباب، فسبحان العليم الحكيم، اللطيف الخبير.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة