- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:الإيمان بالقدر
عقد الشيطان عزمه، وسخر حياته الطويلة؛ لتحقيق غايته الوضيعة في إغواء الذرية البشرية، وقد أقسم بعزة الله التي لا تضام، أنه ماض في هذا الطريق، بنفسه وبجنوده من بعده: { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} ( ص:82-83 )، {قال فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} (الأعراف: 16- 17).
ومصائد الشيطان لبني آدم متنوعة بتنوع الأقوال ومقاصدها، والأفعال وغاياتها، والنفوس وطبائعها، وقد كان من بين تلك المصائد: إغواء البشر والتسويل لهم بفعل أمور تتعارض مع الإيمان بالقضاء والقدر، ومؤداها وفحواها الاعتراض على مشيئة الله وإرادته النافذة في خلقه، وعلى حكمه الكوني القدري.
وسوف نستعرض في هذا السياق جملة من هذه الأفعال التي تنافي أصل الرضا بالقضاء والقدر أو تنافي تمامه، فمن ذلك:
أولا: أعمال الجاهلية الأولى، ونعني بها تلك الممارسات التي كان يصنعها الجاهليون قبل البعثة، من الأفعال القبيحة، حين حلول الأقدار المؤلمة من موت عزيز عليهم؛ يفعلونها اعتراضا على قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره.
جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية).
فالحديث يشير إلى أنه ليس من التأسي بالسنة، ولا من الاقتداء بالهدي النبوي، ولا من الامتثال لطريقته، فعل تلك الأمور، أما لطم الخدود، فإنهم كانوا يلطمونها ويخدشونها بأظفارهم حتى تعلوها الحمرة، يقول الحافظ ابن حجر: "قوله –صلى الله عليه وسلم- (لطم الخدود)، خص الخد بذلك لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك".
وأما شق الجيوب، فالجيب هو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه إكمال فتحه إلى آخره، وهو من علامات التسخط والاعتراض.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ودعا بدعوى الجاهلية)، فالمقصود بها النياحة والدعاء بالويل والثبور، كأن يقول: واكهفاه واجبلاه واسنداه، فالنهي هنا من النداء بمثل ندائهم غير الجائز شرعا،وقد كان من عادة الناس في الجاهلية أن الرجل إذا غلب في الخصام نادى بأعلى صوته: "يا آل فلان" لقومه فيبادرون لنصره ظالما أو مظلوما، فكأن من يدعوا بهذه الدعوات يشابه أهل الجاهلية بالدعوة إلى نصرته من القدر الذي ظلمه –والعياذ بالله-، وإن كان النائح لا يقصد ذلك وإلا لخرج عن الملة، إلا أن هناك تشابها بين الفعلين فاستحق لأجل ذلك أن ينهى عنه.
على أنه يمكن القول: إن الحديث السابق قد نبه على عدد من الأفعال التي هي من أعمال الجاهلية الأولى، فيدخل فيها كل ما كان من جنسها، وما اتفقت مع مقصودها، وقد مثل العلماء لذلك بحلق الشعر أو نتفه تسخطا، وطرح العمامة، وضرب الرأس على الجدار، ونحو ذلك.
ثانيا: التسخط من الرزق بالبنات، من رواسب الجاهلية المقيتة، وأفعالهم الشنيعة، إذ كانوا يرون الهبة الربانية بالبنات رمزا للعار، وسببا للتعيير، حتى كان بعضهم يعزي بعضا بقوله: "آمنكم الله عارها، وكفاكم مؤنتها، وصاهرتم قبرها!".
وقد صور الله تعالى مشاعرهم تجاه البنات بصورة محكمة دقيقة تبين الاضطراب العقدي، والخواء الروحي، عند أولئك الجاهليين، قال تعالى: { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} (النحل: 58-59)، وفضلا عما يحتويه هذا الفعل من سفاهة ورعونة وطيش وحمق، ففيه اعتراض على القدر الإلهي وقسمته، ورد لهبة الربانية وكفران للنعمة: { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} (الشورى:49)، فضلا عما ينطوي عليه من الإهانة والحط من قدرها ومكانتها.
ثالثا: الشروع في الانتحار، وهي مشكلة باتت تشكل ظاهرة تسترعي الانتباه، يتبناها من يشعرون بالضياع وعدم الجدوى من الحياة، ويظنون أن الإنسان يحق له إنهاء حياته بيده، وأن روحه التي بين جنبيه هي ملك خالص له، كما ينطوي هذا الفعل على اليأس من تغيير الأقدار والتسخط من الواحد القهار، ولذلك أغلظ الإسلام عليه العقوبة، ورتب الوعيد الشديد على فاعله، قال تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا} (النساء:29-30)، وعن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: ( كان برجل جراح، فقتل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة) رواه البخاري.
ومن الوعيد الشديد الوارد في ذلك قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) رواه مسلم، ومعنى (يتوجأ بها في بطنه) أي يطعن بها نفسه.
والحاصل أن المؤمن: "إذا حلت به أسباب الخوف، وأسباب الأسقام، وأسباب الفقر والعدم لما يحبه من المحبوبات المتنوعة، فليتلق ذلك بطمأنينة وتوطين للنفس عليها، بل على أشد ما يمكن منها؛ فإن توطين النفس على احتمال المكاره يهونها ويزيل شدتها، وخصوصا إذا أشغل نفسه بمدافعتها بحسب مقدوره" وبهذه الطريقة فقط يكون من الراضين بقضاء الله وقدره، جعلنا الله منهم.