تحدياتٌ داخل الصف الإسلامي

1 979

عوامل ضعف الأمة الداخلية والخارجية كثيرة، وكذلك مظاهر انحرافها عن الجادة التي ينبغي أن تصلح لتعود إلى العهد الأول.

والمهم أن ندرك أنه لا يضيرنا عظم التحديات إذا سلمت الجبهة الداخلية؛ بدءا بالنفس، ومرورا بالأسرة، وانتهاء بالأمة.

فقد قال الله تعالى عن الأعداء: {لن يضروكم إلا أذى} [، {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط} ، فلن تؤثر العوامل الخارجية أثرا يضر ما لم تكن ثمة أسباب داخلية تتفاعل معها، ولهذا انبثق نور الإسلام أول أمره مع وجود المحاولات الخارجية العظيمة لحبسه التي لم تضر الجيل الأول إلا أذى، والله تعالى يقول: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} وهذا في أحد، وتأمل مع أن ما أصابهم بأيدي العدو الخارجي، لكن أرجع الله تعالى السبب إلى أنفسهم، فوجود العوامل الخارجية سنة قديمة باقية وإنما يفعل هذا فعله إذا كانت ثمة عوامل داخلية مساعدة.
وإذا تحقق أمران تجاوزت الأمة أعظم التحديات، وهما:
1 - سلامة التصور الإسلامي.
2 - العمل على تحقيقه واقعا جميعا.
وأهم الصوارف عن هذين ثلاثة أمور هي أعظم التحديات التي ينبغي أن نقف معها، وهي:
الأول: الجهل بالدين.

الثاني: الهوى.

الثالث: تبديد الجهود وصرف الأوقات في خلافات ونزاعات داخلية بين الإسلاميين، وهذا من أعظم أثر الاثنين قبله.

وإذا كانت هذه قضايا يجب أن تكون معالجتها ضمن خطط البناء طويلة المدى، أو كما يقال ضمن (استراتيجيات) العلماء والدعاة والحركات الإسلامية والجماعات؛ فإن ثمة تحديات أخرى وقتية (تحديات الوقت) أفرزتها الثورات العربية في هذه الآونة.

أولا: الجهل بالدين:

ربما لا يعي كثير من الإسلاميين كون هذا تحديا! مع أن هذا معيار يبين لك مدى قرب الإسلامي من الإسلام الحق أو بعده عنه نحو المناهج الأخرى! ومن المقرر أن فاقد الشيء لا يعطيه، فمن السذاجة أن يظن الإسلامي أن الحديث عن هذا سذاجة! والله تعالى أمره في نفسه أن يستعيذ كل يوم من طريق المغضوب عليهم والضالين سبع عشرة مرة أو أكثر في فاتحة الكتاب عند كل صلاة! والضالون هم الذين عبدوا الله على جهالة.

إن الحياة معقدة؛ نوازلها وقضاياها التي تحتاج إلى بصيرة بالدين كثيرة لا يكفي معها مجرد حسن القصد مع الذكاء وكثرة الحركة! بل لا بد مع ذلك من علم راسخ يستبان معه حكم الله في النازلة، وتبحث به الطرق الشرعية في المعاملات لتستقيم وفق تعاليم الإسلام، سواء كانت بنكية، أو تجارية، أو قضائية، أو سياسية، أو غيرها.

والناظر في تاريخ الأمة يجد أن من أعظم أسباب الضلال الأول الجهل بالدين، أعني به ما قرره الله في كتابه أو بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، فذاك هو العلم. وقد لا تغني شيئا النية الحسنة وحدها، ولا كون صاحبها إسلاميا عابدا متمسكا، وتأمل حال الخوارج؛ كانوا بالمصطلح المعاصر من جملة الإسلاميين، وكانوا من أشد الناس عبادة وأحرصهم على إقامة الدين، حتى قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في شأن رأسهم ذي الخويصرة: "إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" (متفق عليه) أخرجه البخاري ، وكذلك القدرية ورأسهم بالبصرة عمرو بن عبيد الذي بلغ من تنسكه مبلغا كان إذا مر مع أبيه -وكان صاحب شرطة- قال الناس: خير الناس ابن شر الناس! فيقول عبيد: صدقتم، هذا إبراهيم وأنا آزر! ولما مات يقال إن أبا جعفر المنصور رثاه بقصيدة يقول فيها:
صلى الإله عليك من متوسد *** قبرا مررت به على مران
قبرا تضمن مؤمنا متخشعا *** صدق الإله ودان بالقرآن
وإذا الرجال تنازعوا في سنة *** فصل الحديث بحكمة وبيان
فلو أن هذا الدهر أبقى صالحا *** أبقى لنا حيا أبا عثمان!
ومن المشهور فيه قوله:
كلكم يمشي رويدا كلكم يطلب *** صيدا غير عمرو بن عبيد!
ومع ذلك، كان هذا الرجل أحد أعلام تفريق الأمة، وأحد رؤوس القدرية الذين قال فيهم عبدالله بن عمر رضي الله عنه: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبدالله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر" (مسلم).

وقد أخرج البيهقي عن إبراهيم التيمي، قال: خلا عمر بن الخطاب ذات يوم فجعل يحدث نفسه، فأرسل إلى ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة؟ قال ابن عباس: "يا أمير المؤمنين! إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل، وإنه يكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يعرفون فيم نزل، لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لقوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا" .

قال الشاطبي: "ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها، فلم يتعد ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها، فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات، فلم يكن بد من الأخذ ببادئ الرأي، أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا، إذ لا دليل عليه من الشريعة، فضلوا وأضلوا"

الجهل المركب خطره أعظم:
"كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا ما جاء به الرسول. قال الحسن: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح" ، وتعليق الشاطبي عليه : بل يظن أنه مصلح، بل يسخر من العلماء الذين أوجب الله الرد إليهم، ومن حقهم أن يصدر عن رأيهم ويأتمر بأمرهم، وكل هذا تشهده الساحة الإسلامية اليوم!
ومن يتأمل واقع الإسلاميين اليوم يجد الجهل العريض متفشيا، لا الجهل البسيط فحسب، إذ لو كان العامي من الإسلاميين مقلدا مكتفيا بذلك فربما سلم، لكن الشأن أشد جهل بالشريعة وجهل بآراء المتقدمين ممن ينتسبون إليهم، ثم اعتداد بالآراء وتعصبات واجتهادات أفسدت الساحة الإسلامية. إن تجاوز من فرضه التقليد موضعه، وتصدره أو تصديره ظنا منه أو فيه أنه أهل؛ من جملة اتخاذ الرؤساء الجهال الذين عاقبة أمرهم ضلال وإضلال.

ولا دواء أنجع لهذه الحالة من بث العلم النافع بين المسلمين، ودعوتهم للتفقه، قبل الانتصاب للمناظرة والخصام، فإن من بلايا الأمة اليوم خصام الجهلاء عن العلماء تعصبا وحبا، ومتى ترك العامي فرضه الذي هو التقليد هوى أو عصبية، أفسد وفرق.

قال الشاطبي رحمه الله لما تحدث عن أسباب الافتراق: "أحدها: أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين -ولم يبلغ تلك الدرجة- فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأيا وخلافه خلافا! لكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع، وتارة يكون في كلي وأصل من أصول الدين -سواء كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية-، فتراه آخذا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها حتى يصير منها ما ظهر له بادي رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصده، وهذا هو المبتدع وعليه نبه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبض الله العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" (البخاري ) .
 
ومما يجب التنبه إليه في هذا المقام، هو أن مخالفة الواجب الشرعي مغبتها عظيمة حتى إن كان المخالف متأولا فاضلا يحب الخير، وتأمل ما حل بالمسلمين يوم أحد واعتبر، فقد خالف الأمر صحابة كرام أفاضل، لم يخالفوه عنادا أو اتباعا لهوى، بل تأويلا وعدم وقوف مع مقتضى النص لشبهة، مع أن النص يقول: " إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم" (البخاري) ، فانظر كيف كانت العاقبة، مع حسن القصد، ثم تأمل التأويلات الباردة اليوم التي يترك لأجلها أقوام النصوص تماشيا مع روح العصر كما يقولون! فالحذر الحذر، والجد الجد في معرفة الحق ودلالة النص ومن ثم اتباعه، {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} ، فليحذر المسلم، فإن مخالفة الشريعة وإن كانت بحسن قصد قد تكون مغبتها عظيمة، واعتبر هذا بمثال: رجل يشرب الدخان أو يأكل القات متأولا يعتقد حله مع أنه في الحقيقة حرام، فقد لا يكون آثما عند الله عز وجل، لكن لا يعني هذا أنه سيسلم من المضاعفات الصحية للدخان أو القات، فالله أجرى الدنيا على مصالح أرشدت إليها النصوص، وقد يعذر المخالف لكن سنة الله ماضية، وهذا يقرب لك ضرورة الاجتهاد في معرفة أحكام الله تعالى لمن آمن أنها إنما أنزلت لصلاح أمر العباد في الدنيا والآخرة.

ثانيا: الهوى:
"فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض، أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق، فالأول البدع، والثاني اتباع الهوى، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء، وبهما كذبت الرسل، وعصي الرب، ودخلت النار، وحلت العقوبات.
فالأول من جهة الشبهات.
والثاني من جهة الشهوات" (إعلام الموقعين)

والأول مرده لاتباع الهوى كذلك، قال الشاطبي رحمه الله في بيان أن اتباع الهوى ضلال مبين: "ألا ترى قول الله تعالى: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} ، فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده هو: الحق، والهوى.. وقال: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} ، فجعل الأمر محصورا بين أمرين: اتباع الذكر، واتباع الهوى.. وقال: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} ، وهي مثل ما قبلها، وتأملوا هذه الآية؛ فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه فلا أحد أضل منه، وهذا شأن المبتدع، فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله وهدى الله هو القرآن" .

وقد "سمي أهل البدع: أهل الأهواء؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم؛ فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك" ، وانظروا لما نجم عن ذلك من التفرق في الأمة والتمزق شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.

قال: "وقد دل على ذمه القرآن في قوله: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} الآية، ولم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم، حكى ابن وهب عن طاوس أنه قال: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه! وقال: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} ، إلى غير ذلك من الآيات، وحكي أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي أن رجلا سأل إبراهيم النخعي عن الأهواء أيها خير؟ فقال: ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير! وما هي إلا زينة الشيطان، وما الأمر إلا الأمر الأول؛ يعنى ما كان عليه السلف الصالح" ومن ذلك أن يكون هواه تبعا لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

آفتان يأتي بهما الهوى:
ومما سبق نخلص إلى أن اتباع الهوى سبب في آفتين عظيمتين تهددان المجتمع من داخله:

الأولى: التفرق والاختلاف؛ لأن الأهواء مختلفة، ومرادات النفوس متباينة، وآراء العقول متفاوتة، ولا اعتداد بكتاب أو سنة أو رجوع لمقتضاهما عند من حكم عقله! وعن ذلك نشأت الفرق قديما، وكذلك ينشأ التحزب الممقوت القائم على الهوى الذي نهينها عنه في مثل قول ربنا: {ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}: ، {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون . وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون} ، {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون . فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون . فذرهم في غمرتهم حتى حين} ، {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} .

الثانية: الركون إلى الشهوة، وما تريده النفوس من الخلود إلى الدعة والمتعة واللذة، وهي التي ذم الله أهلها فقال عز وجل: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} ، وقال في الآية الأخرى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا . إلا من تاب وآمن وعمل صالـحا فأولئك يدخلون الـجنة ولا يظلمون شيئا} .

وعلاج هذه الآفة يكون بتحقيق الخشية، مع الصبر والنظر في العواقب، كما أن علاج الآفة المذكورة في السبب الأول هو العلم، فدار الأمر على العلم والصبر، والعمل بمقتضاهما.

قال ابن القيم رحمه الله: "فتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لـما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} ، فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. وجمع بينهما أيضا في قوله: {وتواصوا بالـحق وتواصوا بالصبر} ، فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات" ، وتأمل أول السورة {إن الإنسان لفي خسر} ثم الاستثناء.

قال شيخ الإسلام: "صلاح بني آدم في الإيمان والعمل الصالح ولا يخرجهم عن ذلك إلا شيئان:

أحدهما: الجهل المضاد للعلم فيكونون ضلالا.

والثاني: اتباع الهوى والشهوة اللذين في النفس فيكونون غواة مغضوبا عليهم؛ ولهذا قال: {والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى} ، وقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" ( وأبو داود) فوصفهم بالرشد الذي هو خلاف الغي، وبالهدى الذي هو خلاف الضلال، وبهما يصلح العلم والعمل جميعا ويصير الإنسان عالما عادلا لا جاهلا ولا ظالما"

ثالثا: تبديد الجهود وصرف الأوقات في خلافات ونزاعات داخلية بين الإسلاميين:
وهذا من أعظم أثر الاثنين قبله، قال الشاطبي: "الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العادات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة، الخائضين في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها، والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول، وعامة العصر الثاني" فإذا كان الجهل وقع الشقاق والافتراق والخلاف في الأصول الكبرى، وكذلك إن قادت الناس الأهواء.

قال ابن تيمية: "مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن، وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى"

والسبيل لعلاج ذلك سلوك سبيل العلم والقيام بالقسط ولو على حساب النفس أو الأقربين، قال شيخ الإسلام: "علينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله، ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى ولا نتكلم بغير علم؛ بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة؛ فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض فهذا منشأ الفرقة والاختلاف" ، وواقع الناس اليوم أن الإسلاميين أنواع، ومع كل نوع شيء من الحق يقل أو يكثر، ويقع الافتراق المذموم عندما يبغي من معه بعض الحق على آخر معه بعض الحق.

قال ابن تيمية: "إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة؛ علمائها، وعبادها، وأمرائها، ورؤسائها؛ وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن؛ محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به، وهو الإسراف المذكور في قولهم: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} ، وبإزاء هذا العدوان تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق أو فيما أمروا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الأمور" .
وقد قال رحمه الله في بيان الواجب على عامة الإسلاميين: "الواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه؛ إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل، وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" .
وملخص هذا القسم أن الاختلاف واقع في الأمة بسبب الجهل والهوى وتوزع الحق بين أهله، مع ما يصحب العامة وبعض الخاصة من بغي وتعصب، وسبيل علاج هذا الواقع:
- حصر الجدال بالتي هي أحسن والمناظرة بين أهل العلم والورع من رؤوس الناس..
- ونهي عامة الإسلاميين عن الخوض فيه إلا بعلم..
- بل يلزم العوام الجمل الثابتة..
- ويقلدون من يثقون به..
- ويتركون البحث العلمي لأهله..
- ويجتنبون المراء والجدل..
- وينأون بأنفسهم عن التعصب والخوض والقدح.
فإن هذا مما يذم عليه العامي ويؤزر ولو صادف أنه نصر الصواب؛ لأنه ترك فرضه، وخاض فيما نهي عنه، كالمفتي الذي يفتي بالجهل فيوافق الصواب.
والمتأمل للساحة الإسلامية يجد أكثر ما يذكي الصراع العامة بدخولهم فيما لا يحسنون، ولهم من المناصب والأفعال والتصرفات وأنواع الضغوط بعد ذلك ما يزيد الشقة حتى بين العلماء، ولا بد من علاج لهذا الخلل حتى يستقيم الأمر.

فلو عمل الناس بالجمل الثابتة، واشتغلوا في المساحات المتفق عليها، وتسامحوا وتركوا التشاح؛ لأثمرت جهودهم ثمارا عظيمة، ويبقى التناصح واجبا بين أهل العلم وطلابه العدول، ومن شأن هذا أن يوسع مساحات العمل المشترك ويضاعف الثمار، والله لطيف بعباده إن علم منهم خيرا، فحري بهم أن يوفقوا: {إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا}
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة