لقد جئتم شيئاً إدّاً(1)

0 1704

 تصدمنا كثير من المعتقدات المحرفة كاليهودية والنصرانية، وطيف واسع جدا من الديانات الوثنية الأرضية، في نسبتها لله تعالى صفات النقص والعيب، وأمور لا تنبغي أن يعتقد فيها بمن كان خالقا ومدبرا، لكل هذا الكون، علويه وسفليه.

ومن أبشع الصفات الرديئة، التي تنسب إلى الله جل وعلا زورا وبهتانا، وتدل على انحطاط قائليها وقلة إدراكهم لمقتضيات الكمال والجلال الإلهي، ما ينسب إلى الله تعالى من اتخاذ الله ولدا، والقيام بنسبة الذرية إليه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وهذا الإفك المبين، الذي لا يصدقه عقل، ولا تتقبله نفس، ولا يتماشى مع فطرة، ولا يستقيم مع أدنى تفكير، قديم وجذوره موغلة في التاريخ، فكثير من الديانات وقعت في هذه النقيصة فادعوا أن لله تعالى ولدا، وحاشاه أن يكون له ذلك.

ولبيان القضية من جميع نواحيها، كان من المناسب أن نستعرض الجذور التاريخية لهذه المقولة الباطلة وبيان من قال بها من الأمم والشعوب، ثم يكون البيان المفصل للعقيدة الإسلامية وإبطالها لها.

أما النصارى: فلتعظيمهم للمسيح عليه السلام، ولفتنتهم بولادته المعجزة، ولما أدخله عليهم أشقى القوم "بولس" فأفسد عليهم دينهم، قالوا بأن المسيح عيسى بن مريم ابن لله، قال تعالى: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} (التوبة: 30).

ولا شك أن المسيح عليه السلام وهو من أولي العزم من الرسل كانت ولادته معجزة، وطفولته خرقا للعادة، بها أرانا الله قدرته المطلقة على إيجاد ولد من غير سبب ظاهر، ثم جعله قادرا على الحديث مع الناس بلسان فصيح مبين، فكان بذلك مشابها لأبيه آدم عليه السلام بوجه من الوجوه: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: 59).

ومع أن هذه الظواهر الخارقة للعادة والنواميس الكونية، فيها دلالة ظاهرة على على قدرة الله عز وجل الخالق وعلى نبوة عبده عيسى عليه السلام، إلا أن النصارى لم يقفوا عند دلالتها الظاهرة، ولكن حملوها ما لا تحتمل، فجعلوها قرينة ظاهرة بل دليلا صارخا على أن المسيح عليه السلام، هو ابن الله المستحق للتقديس والعبادة، والعياذ بالله.

وأما اليهود، فقالوا بأن عزيرا هو ابن الله: {وقالت اليهود عزير ابن الله } (التوبة: 30)، وقد اختلف في حال عزير عند العلماء:

-فمن قائل أنه نبي من الأنبياء، أرسله الله تعالى في بني إسرائيل، وأنه المذكور في قوله سبحانه: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} (البقرة: 259)، وقد ذكرت هذه الآية عند جماعة من المفسرين ونسبوها إلى عزير عليه السلام.

-واختار علماء آخرون أن عزيرا هو حبر كبير من أحبار اليهود، وقد ‏استطاع بحفظه أن يعيد شريعة التوراة وكان اليهود يعظمونه إلى حد أن ادعى ‏عامتهم أنه ابن الله ، وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وبلاء، ‏وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا ‏بذلك البلاء، فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة، فحفظها الله عزيرا كرامة منه له، ‏فقال لبني إسرائيل: إن الله قد حفظني التوراة، فجعلوا يدرسونها من عنده، ثم إن التوراة ‏المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس، فضلوا، وقالوا: إن هذا لم يتهيأ ‏إلا وهو ابن الله .

قال ابن كثير: "والمشهور أن عزيرا نبي من أنبياء بني إسرائيل، وأنه كان فيما بين داود وسليمان وبين زكريا ويحيى عليهم السلام، وأنه لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التوراة فألهمه الله حفظها فردها على بني إسرائيل؛ ولهذا قالوا عنه ابن الله". تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

وليس القصد هنا تحرير مسألة نبوة عزير من عدمها، ولكن ما يعنينا هو معرفة البواعث التي لأجلها جاء التقديس المبالغ فيه حتى وصل الأمر بجعله ولدا لخالق السماوات والأرض.

ولم يكن القول ببنوة العزير يشمل جميع اليهود، ولكنه قول فرقة من فرق اليهود اسمها: الصدوقية، وتعتبر من أهم فرق اليهود القديمة، وهم ينتسبون إلى كاهن لهم يسمى "صادوق" أو "صدوق". ولهم عقائد متنوعة تتعلق بالقضاء والقدر والبعث والجزاء، وأهمها: نسبة الولد لله تعالى، كما قال ابن حزم: "الصدوقية: ونسبوا إلى رجل يقال له: (صدوق) ، وهم يقولون من أثر اليهود أن العزير هو ابن الله - تعالى الله عن ذلك - وكانوا بجهة اليمن".

وتبقى نسبة هذا القول لليهودية -رغم أن فيهم من لا يقول بذلك- نسبة صحيحة ولا شك، لأن المراد باليهود جنس اليهود، وشبيه بذلك قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} (آل عمران: 173) فالمراد به الجنس، وهذا كما يقال الطائفة الفلانية تفعل كذا، فإذا قال بعضهم فسكت الباقون ولم ينكروا ذلك، فيشتركون في إثم القول، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.

وقد روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشأس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟ فأنزل في ذلك من قولهم: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله} ، إلى قوله: {أنى يؤفكون} .

وأما المشركون من العرب، فقد تعمقوا في هذا الباطل، فجعلوه عاما في الملائكة لكلهم، وادعوا أنهم بنات الله –والعياذ بالله: كما قال سبحانه: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} (النحل:57)، وقال سبحانه {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} (الزخرف:19).

ثم إنهم جعلوا بينه وبين الجنة نسبا، قال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} (الأنعام:100)، وقال سبحانه: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون} (الصافات:158).

ولم تكن هذه المقالة باطلة قولا ناشئا في ظروف معينة ثم اندثر، ولكنها ضلالة لها حضورها في تاريخ المعتقدات، وإننا لنجد لهذه العقيدة حضورا فيما يسمى بالميثولوجيا "علم الأساطير" عند الإغريق واليونان والحضارة الهندية، وغيرها من الوثنيات المعاصرة، بما لا يتسع فيه هذا المقام لعرضه وبيانه، وبالله التوفيق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة