- اسم الكاتب:ماهر أبو عامر
- التصنيف:قضايا شبابية
خواطر راودتني، وأحاسيس غالبتني، ومشاعر حركتني.. فأمسكت بقلمي، وقلبت صفحات ذاكرتي، وتذكرت صفاء الابتداء، وصياغة الأوفياء، وصناعة السابقين، وتاريخ المخلصين ممن قضوا نحبهم وهم أوفياء لدينهم ودعوتهم وبيعتهم، فوجدت أكثرهم نفعا وتأثيرا.. "غرباء"، أو إن شئت فقل ”جنود مجهولون”.
سرعان ما انسالت الكلمات يسطرها القلم، تاريخ عظيم لا أجد له مثيلا، عظماء سطروا لنا معالم التاريخ، دلنا على وصفهم وأخبارهم وحالهم إمام المربين وحبيب المقتدين محمد الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، فقال: [طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه، أشعث رأسه، مغبر قدماه، يطير على ظهره عند كل هيعة] (رواه البخاري).. غايته مرضاة ربه، قدوته النبي وصحبه، منطلقه دستور ربه، سبيله الجهاد، أسمى ما يتمناه الموت في سبيل ربه ودينه.
ومن أخص وصفه: ما بينه حبيب ربه صلى الله عليه وسلم: [إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر، وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نقر بإصبعيه فقال: عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه](رواه الترمذي وحسنه).
هل رأيتم هذه الصفات العجيبة؟ إنها والله تنطبق على معظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، (لمؤمن خفيف الحاذ) أي خفيف المسئولية والمؤنة، (غامض في الناس) فلا تسلط عليه الأضواء، ولا يسمع عنه الناس، بل مجهول في وسطهم. (لا يشار إليه بالأصابع) فلا يقال هذا فلان بن فلان، (فعجلت منيته) في الجهاد في سبيل الله، يلقى بنفسه في غمرات الموت لا يهاب، (وقل تراثه، وقلت بواكيه) لأنه يموت في الغربة، كأمثال حمزة بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مات قرب المدينة، ليس له باك يبكى عليه من زوجة أو ولد، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: [لكن حمزة لا بواكي له] (رواه أحمد وابن ماجة). كذلك مات جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه على حدود الروم ولم يبكه أحد، فهم وأمثالهم عاشوا غرباء وماتوا غرباء في سبيل الله رب العالمين.
وأمثال هؤلاء أبكوا خليفة رسول الله الفاروق، حين فتحت نهاوند في أقاصي الشرق وسأل عمن استشهد من الصحابة؟ فقيل: النعمان بن مقرن، وفلان وفلان من القادة، وبعض الجند لا يعرفهم أحد، فبكى عمر بن الخطاب رضى الله عنه وجثا بركبتيه على الأرض، وقال: إياك أن تقول لا يعرفهم أحد، لا يضرهم إن كان لا يعرفهم عمر بن الخطاب ويعرفهم الله الذى في سابع سمائه.
معاذ يبكى.. والفاروق يسأل
مر عمر بمعاذ بن جبل وهو يبكي، فقال ما يبكيك؟ قال حديث سمعته من صاحب هذا القبر (يعني النبي صلى الله عليه وسلم)، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أدنى الرياء شرك، وأحب العبيد إلى الله الأتقياء الأخفياء: الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم. (رواه الطبراني وهو ضعيف).. وبكاء معاذ هو نفس ما أبكى عمر حين سأل عن شهداء نهاوند.
هؤلاء غرباء لأنهم طلاب آخرة، لا طلاب دنيا.. طلاب جنة، لا طلاب مكانة ومنصب.. طلاب آخرة وجنة؛ لأنهم حطوا رحالهم هناك [لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها](رواه الترمذى).
يقول إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال ابن مسعود: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض.
فالعمل الصامت عند المخلص أحب إليه من العمل الذي يحفه ضجيج الإعلان وطنين الشهرة. ورحمة الله على من قال: كونوا عبادا قبل أن تكونوا قوادا، تصل بكم العبادة إلى أحسن القيادة.
إن المخلص يستوى عنده العمل، قائدا معروفا أو جنديا مغمورا، فكلا الدورين يبتغى بهما وجه الله تعالى. ورحم الله خالد بن الوليد، المنتصر الفاتح الذى لا يشق له غبار، يأتيه أبو عبيدة ابن الجراح بخبر عزله عن القيادة، فيقدمه فرحا بتخفيف الله، ويعلن صدق إخلاصه بحسن نصحه وإرشاده للقائد الجديد. فالكل في سفينة لا يهم من القبطان، ولكن تأمين المسير هو السبيل لبلوغ شاطئ الأمان.
فكلمة الإخلاص هي التي تسوى بين الرؤوس؛ لا فرق بين أبيض ولا أسود، ولا عربي ولا عجمي إلا بالتقوى.. يستوى مع ذلك القيادة والجندية.
هذا هو الجندى المجهول.. الذى بموته تستمر الحياة، وبتاريخه تبنى الأمم حضارتها، وبذكراه تتوالد الأجيال بعد الأجيال، وبتاريخه العزة والنصر والكرامة والإباء. وصدق الله إذ يقول: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}(سورة الأحزاب).