- اسم الكاتب:إسلام ويب ( أ. د عبدالسلام مقبل المجيدي )
- التصنيف:إعجاز القرآن الكريم
خطة المكر الأنثوية المضادة في مغامرات عابدات الشهوات
كما انتشر خبر امرأة العزيز إلى نساء من قومها سريعا، فقد وصل إليها خبر كلامهن ومكرهن بصورة أسرع، وصورت ذلك (الفاء) في قوله تعالى: {فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن} [يوسف:31] وما وراء السطور والكلمات في قول هؤلاء المترفات باد للسامعين والسامعات اللواتي لا أهداف حقيقية في حياتهن إلا قصص اللهو وأحاديث المستهترين والمستهترات، وقد وصف ذلك الطبري -رحمه الله- فقال: "وإنما كان قيلهن ما قلن من ذلك، وتحدثهن بما تحدثن به من شأنها وشأن يوسف، مكرا منهن، فيما ذكر لتريهن يوسف"، عليه السلام، فقد بدأت شهوة السوء تتملكهن، فأردن بذلك أن يبلغ قولهن إليها، فيغريها بعرضها يوسف -عليه السلام- عليهن، فيرين جماله؛ لأنهن أحببن أن يرينه، كأنهن أضمرن حسدها على اقتناء مثله.
وعلمن أنها إذا سمعت بحديثهن فإنها ستعرض يوسف عليهن ليتمهد عذرها عندهن، فهن ما قلن هذا إنكارا للمنكر وكرها للرذيلة، ولا حبا لقول المعروف ولا نصرا للفضيلة، وإنما قلنه مكرا وحيلة، ليصل إليها فيحملها على دعوتهن، وإراءتهن بأعين أبصارهن ما يبطل ما يدعين رؤيته بأعين بصائرهن، فيعذرنها فيما عذلنها عليه، فهو مكر شديد لا نصح رشيد، وذلك هو عين ما حدث {فلما سمعت بمكرهن}، وكان من المتوقع أن تسمعه لما اعتيد بين هذه البيوت من التواصل بالزيارات، واختلاف الخدم من كل منها إلى الآخر، وهن ما قلنه إلا لتسمعه، فإن لم يصل إليها عفوا احتلن في إيصاله قصدا، فكان ما أردنه. والمعهود في اللغة أن الفعل (سمع) يعدى إلى المسموع بنفسه، ولكنه هنا تعدى بحرف (الباء) {فلما سمعت بمكرهن} فقد تكون تعدية الفعل بـ (الباء) لأنه ضمن معنى أخبرت، كقول المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي تخبر عنه، فهي لم تسمع ذلك منهن مباشرة، وإنما نقل إليها وأخبرت به عبر وسائل التواصل الإعلامي المعتادة مما يتم به نقل أحداث الإثارة في المجتمعات الفارغة، وقد تكون (الباء) مزيدة للتوكيد مثل قوله تعالى: {وامسحوا برؤسكم} [سورة المائدة:6].
يا لدهاء هذه المرأة.. ولكنه دهاء لا يفيء إلى خير، أو يقوم على نشر النافع للناس، بل على التآمر والهدم، ففطنت أسيرة ذنوبها وشهواتها بما يخبئه الفضول المستعر، والشهوات المخبأة خلف عبارات الاستنكار، فأرادت أن تشركهن في حمأة المجون، ومهرجانات العفن ومواقف الفتون، ولذلك {أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن} لأنهن لم يتذوقن طعم الإيمان، وحقيقة الطهارة، وجمال مبدأ {معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} [يوسف:23].
عندها أعدت خطتها الماكرة، فقد أرسلت إليهن لتجمعهن بهذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها، خشية وطاعة لله، وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يخونه في أعز شيء لديه.
وكان من أهدافها في جمعه بهن أن تحاول فتنته بصورة جماعية، فربما إذا رآهن اهتز ثباته واضطرب، ومسه الشيطان بإغرائه فذل للمعصية وأكل منها وشرب، وظنت أنه ربما صبا إليهن، وجذبه من جمالهن الطارئ المفاجئ له، ما لم يجذبه من جمالها الذي ألفه قبل أن يبلغ أشده.
المتكأ: محل الغفلة الخادعة
{وأعتدت لهن متكأ} [يوسف:31] دعتهن إلى الطعام في دارها، ومكرت بهن كما مكرن بها، بأن أعدت وهيأت لهن متك، والمتكأ: محل الاتكاء، والاتكاء: جلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع اعتدال قليل ارتفاعا نحو الأعلى، ففيه التمكن بالجلوس عليه أو الاعتماد عليه باليد أو اليدين، كقوله تعالى {وسررا عليها يتكئون} [الزخرف:34] أي: يجلسون، فالإتكاء هو الميل في القعود معتمدا على أحد الشقين، وهو يستعمل في المعنيين جميعا، يقال: اتكأ إذا أسند ظهره أو جنبه إلى شيء معتمدا عليه، وكل من اعتمد على شيء فقد اتكأ عليه، وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة، فأعدت لهن ما يتكئن عليه إذا جلسن من الكراسي والأرائك والنمارق وهو المعتاد في دور الكبراء، وكان أهل الترف يأكلون متكئين، كما كانت هذه عادة للرومان، ولم تزل أسرة اتكائهم موجودة في ديار الآثار، كما قال تعالى في صفة الجنة: {متكئين فيها على الأرائك} [الكهف:35].
وكان الذي أعدته في حجرة مائدة الطعام، فهو متكأ جميل فاخر مع أنواع الأكل الخالب الباهر الآسر والمائدة العامرة المصحوبة بالسكاكين التي تساعد على الترفه في أكل لا يوجد إلا عند أولي النعمة، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ليقطعن به ما يأكلن من لحم أو فاكهة، وهذا التفصيل واضح من قوله تعالى: {وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا} [يوسف:31] ومعنى (آتت) أمرت خدمها بالإيتاء كقوله: {يا هامان ابن لي صرحا} [سورة غافر:36].
فالله تعالى -كما يقول الطبري محللا تفاصيل تختبئ خلف هذه الكلمات المباركات- "أخبر عن إيتاء امرأة العزيز النسوة السكاكين، وترك ما له آتتهن السكاكين؛ إذ كان معلوما أن السكاكين لا تدفع إلى من دعي إلى مجلس إلا لقطع ما يؤكل إذا قطع بها. فاستغني بفهم السامع بذكر إيتائها صواحباتها السكاكين، عن ذكر ما له آتتهن ذلك، فكذلك استغني بذكر اعتدادها لهن المتكأ، عن ذكر ما يعتد له المتكأ مما يحضر المجالس من الأطعمة والأشربة والفواكه وصنوف الالتهاء لفهم السامعين بالمراد من ذلك"، و(الأكل) حال الاتكاء مما كرهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا لأسباب صحية وتربوية ففي البخاري أن أبا جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا آكل متكئا).