مأزق المترقِّب

0 1160

واضعا يده على ذقنه يتفرج باهتمام بالغ على مشروعات العلم والدعوة والثقافة والحقوق تتسابق فعالياتها بين ناظريه .. هو يعرف أسماءها جيدا .. وفي أيام مضت تواصل مع بعض رجالات الإنتاج في هذه المشروعات .. بل له الآن علاقات طيبة مع بعضهم .. وبحوزته أيضا رقم الهاتف الخاص لبعضهم .. كما أن أحدهم دعاه يوما لمجلس ضم بعض هؤلاء المنتجين .. بل هو لا يزال يتذكر أنه أرسل لبعضهم رسالة جوال أو بريد إلكتروني ورد عليه.. لكنه إلى الآن ليس جزءا من أي مشروع .. ولم يبدأ الخطوة الثانية في أي حلم سبق أن فتح له ملفا في جهازه المحمول..

هذه أزمة الإنسان المترقب .. الذي تململت من جلوسه مدرجات المتفرجين.. ومازال متفرجا..
الإنسان المترقب قد يكون يرفل في ربيع العمر ويحرق سنواته الذهبية بلا مبالاة من يشعل سيجارة لصديق وضع يده على جيبه ولم يجد ولاعته.. وأخذ ينفث الزمن في الهواء ..
الإنسان المترقب حدث تحول مهم في حياته، كان يتابع الجدل والردود المتبادلة ونقائض التيارات عبر المنتديات الإلكترونية، ثم صار اليوم يتابعها عبر شبكات التواصل، هذا كل ما في الأمر ..
الإنسان المترقب قد يكون في المسجد يراجع حفظا أو يذكر الله .. فتنسل يده لجواله وينقر أيقونة شبكات التواصل .. ويخرج من المسجد وهو فيه .. أتى إلى المسجد لتغتذي روحه العطشى لذكر الله .. لكنه دخل المحراب بجسده ثم قذف بروحه في العراء خارج الأسوار..

هل هذا يعني أن الإنسان المترقب هو كائن معزول الإحساس بالزمن؟ هل المترقب عديم الأحلام والطموحات؟ لا، بل هو يتحرق كثيرا ويتمنى أن يصنع شيئا لنفسه وللآخرين، ولكنه واقف كالمشلول .. لماذا؟ المترقب ذاته لا يدري ..
حين يكون المترقب في مجلس ذكر عن قيام الليل تشتعل همته للمناجاة في هزيع السحر، وحين يكون المترقب يستمع لدرس عن فضل العلم ومناقب المعرفة يكاد يمضغ ذاته حماسة ويتخيل نفسه قد حبس عليه غرفته بين أرفف مكتبته .. لكن ما إن يتجاوز لهيب الحماسة حتى يتبدد كل شيء ويعود لذات برنامجه اليومي في التفرج على المنتجين..

لدى المترقب مشكلة يمكن تسميتها مشكلة "ترحيل المهام" فحين كان المترقب في المرحلة الثانوية كان يحدث نفسه بأنه إذا انتقل للجامعة وصار له استقلال وحرية أكبر فسيبدأ مشروعات علمية وعملية .. ولما بدأ الدراسة الجامعية صار يقول لنفسه متى ينتهي ضغط المذكرات والبحوث وتحضير المحاضرات والاختبارات وتبدأ مرحلة المهنة وأتفرغ لمشروعاتي العلمية والعملية؟! وهو يقولها صادق، ولما بدأت مرحلة المهنة أصبح يقول لنفسه بعدما أنتهي من هم الزواج والمسكن والاستقرار المادي سأبدأ بإذن الله تنفيذ خططي وأحلامي العلمية والعملية، ثم انخرط في مسؤوليات الأسرة والأبناء ومتطلبات المهنة، حتى طوح به العمر خارج الموسم الذهبي للإنتاج، وصار يقول لنفسه ذهب وقت التحصيل والبناء "وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر".. وهكذا أحرق المترقب عمره عبر آلية "ترحيل المهام"..

يشتكي البعض ويقول أن شبكات التواصل أو تصفح الانترنت جذاب ويشغلني عن مشروعات علمية كثيرة، ربما يكون هذا الكلام يتضمن توصيفا دقيقا للمشكلة، ولكن لي رأي آخر، رأيي أن كثيرا من الملهيات عن العلم والعمل ليست جذابة أصلا، وإنما هي في حقيقتها وسيلة "هروب نفسي" عن المهام الواجبة .. ألا ترى أنك أيام الاختبارات تدع المذكرات وتقرأ بعض الكتب التي كنت منشغلا عنها خارج الاختبارات؟ ألا ترى أنك إذا بدأت بكتاب في علم معين، صارت نفسك تحدثك بمطالعة كتاب في علم آخر لم تكن لتطالعه قبل ذلك؟

صحيح أن حالة التفرج والترقب هذه فيروس خطر يهدد حياة كل واحد منا، لكن الشاب الذي يعيش المرحلة الذهبية للتحصيل العلمي هي في حقه أفظع وأكثر خطورة، فقد أصبح كالمزارع الذي نام على البذور حتى فات الموسم .. فالمرحلة الذهبية للتحصيل العلمي هي مرحلة الذروة في قوة الملكات .. وأي غبن أن تبدأ المعركة بعد أن تخور قواك..
ومن تأمل الليل والنهار الذي نعيش فيه، وكيف نتقلب في أيامه، ثم رأى قسم الله سبحانه بهذا الزمن (والعصر) امتلأ قلبه بإدراك شرف "الزمن" .. وأنه في كل ثانية ودقيقة وساعة ينفق من (رصيد زمني) منحه الله إياه وكتبه الملك حين كان جنينا عمره أربعة أشهر.. لا شيء ساكن في حياتك .. أنت في كل لحظة تنفق من رصيدك الزمني .. فإما أن تشتري به علما وعملا رابحا .. أو يذهب في الترقب والتفرج في صفقة خاسرة ..

ومن الظواهر المثيرة للغرابة فعلا، أن أزمة المترقب لم تعد مقتصرة على إحراق الوقت في متابعة الجدليات والمناقضات عبر شبكات التواصل، بل أصبحت مثل هذه المماحكات التويترية مادة للحديث في بعض مجالس الأخيار، رد فلان على فلان بتغريدة قوية، وتفكه فلان على فلان بتغريدة مضحكة، وقصف فلان جبهة فلان، وهكذا، يا ضيعة الأعمار.. ويا سقى الله أياما كان المجلس فيها نقاشا عن ترجيحات ابن تيمية ومسلكيات ابن القيم ومنهج المتقدمين في الحديث وفقه المعاملات المعاصرة وأخبار القوم من سير النبلاء..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة