صفة القرب في السنة النبوية

0 1673

استقر عند أهل السنة والجماعة الإيمان بصفة القرب الإلهي، وأن هذا القرب إنما هو قرب حقيقي لائق بالله تعالى ليس بينه وبين علوه سبحانه ومباينته لخلقه أي منافاة أو تعارض، لإيماننا بأن الله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يقاس على خلقه، ولا يضرب له الأمثال: {فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون} (النحل: 74).

وصفة القرب الإلهي من الصفات العظيمة التي دلت عليها الكثير من النصوص القرآنية، وبالمثل: دلت عليها السنة النبوية وأكدتها في العديد من المواقف، ودلت ألفاظ الأحاديث التي وردت فيها على ثبوتها قطعا خلافا لما توهمته بعض الفرق الكلامية التي أفرغت هذه الصفة من دلالاتها وأولتها على غير حقيقتها، ونحن هنا في صدد استعراض أهم الأحاديث الصحيحة التي تقبلها العلماء، ويمكن إجمالها فيما يلي:

-حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما غزا خيبر، أشرف الناس على واد، فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (أربعوا على أنفسكم –أي: أرفقوا بأنفسكم ولا تجهدوها-، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم) متفق عليه. وفي رواية للبخاري: (تدعون سميعا بصيرا قريبا) وزاد مسلم (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم).

فالحديث هنا كان تذكيرا للصحابة رضي الله عنهم بضرورة التوسط في الدعاء وعدم إجهاد النفس برفع الصوت، لأن الله تعالى قريب ممن يدعوه، وفي قوله –صلى الله عليه وسلم-: (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم...) الحديث، إنما هو مثل مضروب أريد به تحقيق سماع الدعاء، وأن إجابته إياه وتحقيق سماعه له كمن هو من الداعي بمثل بهذا القرب، هذا مع إثبات قرب الله من عباده على وجه الحقيقة قربا يليق بجلاله.

-حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر فيما يرويه عن ربه، قوله: (إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني مشيا أتيته هرولة) متفق عليه، وفي رواية لمسلم: (وإذا أقبل إلي يمشي، أقبلت إليه أهرول)، والشبر مقدار ما بين رأس الخنصر ورأس الإبهام والكف مبسوطة ومفرقة الأصابع، والذراع:ما بين المرفق إلى أطراف رؤوس الأصابع، والباع ما بين الكفين إذا بسط الإنسان ذراعيه يمينا وشمالا، والهرولة: الإسراع في المشي.

ونحن إذ نثبت هذه الأفعال –ومنها القرب- إلى الله تبارك وتعالى، فإننا نفعل ذلك على وجه يليق بالله تعالى ونتلقاه بالقبول كما فعل أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولا يمكن أن نجعل تقرب الله إلى عبده كتقرب العبد إلى غيره، وقس على ذلك بقية ما جاء في الحديث السابق من الأفعال التي ننسبها لله على الوجه اللائق به.

وفي الحديث إثبات لنوعين من القرب: القرب القلبي الذي هو من لوازم القرب الحقيقي، وهو ما يحصل في قلب العبد من معرفة الرب والإيمان به، فيصير العبد محبا لما أحب الله، مبغضا لما هو يبغضه سبحانه، مواليا لمن والى الله، ومعاديا لمن يعاديه، فيتحد مراده مع مراد خالقه، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.

-حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه، أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر) رواه الترمذي، فهذا قربه من من العبد الذاكر لله تعالى في هذا الوقت له علاقة بالفعل الإلهي الخاص بالنزول إلى السماء في كل ليلة، وهو ما يشير إليه الحديث التالي:

-حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) متفق عليه.

ولا ريب أن الحديث السابق هو من أصرح الأحاديث الدالة على القرب الحقيقي من الله سبحانه وتعالى من عباده، وأنه ليس مجازا كما تقول بعض الفرق الكلامية وتتأوله بالتأويلات الباطلة بنزول رحمته أو إحسانه، لأن النزول هنا متعلق مكاني وآخر زماني، أما المكاني: فهو السماء الدنيا، وأما الزماني: فهو ثلث الليل الآخر، مما دل على إرادة القرب على وجه الحقيقة، وقد بسط العلماء في شرح هذا الحديث في مصنفات خاصة .

-حديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ " رواه مسلم، ولفظ الدنو هو من الألفاظ الدالة على القرب الإلهي، كما أنه خاص بهذا الميقات الزماني: يوم عرفة.

حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى بصاقا في جدار القبلة، فحكه، ثم أقبل على الناس، فقال: (إذا كان أحدكم يصلي، فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى) متفق عليه، وقد عد ابن رجب الحديث السابق من جملة الأحاديث الدالة على قرب الله تعالى من المصلي في حال صلاته، والحديث حق على ظاهره فهو سبحانه فوق عرشه بائن من خلقه وهو كذلك قبل وجه المصلي في الوقت ذاته.

-حديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم..) الحديث متفق عليه. والكنف هو الستر، فالله جل جلاله يستر عبده عن أهل الموقف، ويذكره بما اقترفه.

ودلالة الحديث على صفة القرب تأتي من كونها من لوازم تقرب العبد إليه، فإن قرب العبد من ربه يلزم منه قرب الله من العبد.

وننوه أخيرا أن في الباب حديث عن الصلت بن حكيم بن معاوية أن أعرابيا قال: يا رسول الله: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا} (البقرة – 186)، رواه ابن جرير وابن مردويه وأبو الشيخ الأصبهاني.

والذي يظهر من كلام العلماء أن الحديث ضعيف لأن راويه "الصلت" مجهول، وولحديث علة أخرى هي الاضطراب، فلذلك لم يورد ضمن الأدلة المعتمدة في إثبات صفة القرب، وبالله التوفيق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة