قراءة المستقبل

0 673

من الأبيات السائرة التي تتردد في عدد من السياقات العلمية والوعظية البيت اليتيم الذي ينسب إلى أبي إسحاق الغزي:
ما مضى فات، والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
وإذا صح زعم ابن أبي دؤاد في أن العربي شاعر بطبعه، ولابد أن يقول البيت والبيتين، فإن هذا يوشك أن يكون متحققا في تعطل ملكة النقد والتمحيص العلمي للمعاني المبثوثة في الشعر، فقد جرى العرف لدى الكثير أن الخبر المخلد في الشعر لابد أن يكون صحيحا، وأن الشعر كله حكمة.
وفي لغة الشرع فإن (من الشعر حكمة)؛ كما عند الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذا تبعيض يصدق على القليل والكثير، ولكن في محكم التنزيل ما يوحي أن الرشد في الشعر استثناء من القاعدة: (والشعراء يتبعهم الغاوون  ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) [الشعراء :224-227] .
هذا البيت اليتيم لا يستقيم للنقد، وقد يصح أن الإنسان هو ما مضى وما يستقبل، وألا شيء بعد حاضرا، وأن الساعة التي أنت فيها هي نهب ماض، أو أمل مستقبل، ولا شيء فيها حاضر على التحقيق .

وعناية البشر بالتاريخ ظاهرة؛ تدوينا لأحداثه، وترجمانا لأبطاله، وتحليلا لدوافعه، بينما لا تجد الحفاوة ذاتها بأمور المستقبل، مع أن التاريخ إنما يقرأ ليعتبر به وتحفظ دروسه للزمن القادم.
والإنسان مجبول على التطلع للمستقبل واستقراء أحداثه وتحولاته واستجلاء غوامضه وخوافيه، ولهذا أقرت الشريعة في هذا الباب ما كان نافعا للعباد مبنيا على معرفة النتائج من أسبابها، أو إتيان البيوت من أبوابها، وفي قصة يوسف -عليه السلام- طرف من ذلك، يقول الله -تبارك وتعالى-: (قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون)[يوسف: 47-49]، فهي رؤية مستقبلية ناضجة مستنيرة بنور الوحي والإلهام، ووضع للحلول والاستراتيجيات المكافئة، ورحمة بالعباد والبلاد.
وهذا ما حاوله الغرب حتى أبدع فيه، وصار يعتني بدقة المعلومة، ويحسن توظيفها، ويدرس كافة الاحتمالات والتحوطات، لا رجما بالغيب، ولا تظنيا وتخرصا، بل بناء على استقراء النواميس والسنن، والاعتبار بمعطيات اليوم، وتجارب الأمس.

وفي التنزيل الحكيم: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون)[البقرة : 144] .
فهذا استشراف وترقب لتغيير وجهة الصلاة فاض من قلب المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وامتد من جوانحه إلى جوارحه، فصار يقلب طرفه في السماء منتظرا شريعة ربانية جديدة تحول قبلة الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وهكذا كان.
وربما تمنى وتطلع -صلى الله عليه وسلم- إلى المستقبل الذي لا سبيل إلى تحويله، ولكن الوله والشوق يحدو إليه، حتى إنه نام مرة -صلى الله عليه وسلم- في بيت أم حرام بنت ملحان وهي تفلي رأسه ثم استيقظ وهو يضحك قالت: فقلت ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال: " ناس من أمتى عرضوا على ، غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ، ملوكا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة يشك أيهما قال، قالت فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم . فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وضع رأسه ، ثم استيقظ وهو يضحك فقلت وما يضحكك يا رسول الله قال " ناس من أمتي عرضوا على ، غزاة في سبيل الله .." ( البخاري ومسلم ).
وورد أنه رأى إخوانه الذين لم يأتوا بعد، وحدث بما لهم من الخصوصية والثواب .
وجاءت مواعدة الخصوم عواقب ما تأتي به غير الأيام كثيرا في الكتاب المبين: (قل انتظروا إنا منتظرون)[الأنعام:158]، وقال سبحانه: (فتربصوا إنا معكم متربصون)[التوبة:52]، وقال: (ولتعلمن نبأه بعد حين)[ص:88] .

وهذا التطلع للمستقبل ليس هروبا من الحاضر، ولا قفزا على السنن الربانية، ولكنه الأمل الذي يدفع إلى العمل.
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
والراشدون من رجال هذه الأمة المتبعون كانوا يعدون النظر في المستقبل، وتوقع أحداثه، والتحوط لها من الأسباب التي جاءت بها الشريعة، وكانت تخوفاتهم على الملة وأهلها ورجاءاتهم في حفظها وحياطتها ونصرتها تطلعات مستقبلية معززة بتلمس الأسباب فعلا وتركا؛ يفعلون هذا في أسفارهم، وتجاراتهم، وجهادهم، ودعوتهم.
ومن ذلك كتمان الأخبار كما في فتح مكة مثلا، أو إشاعتها كما في قصة دوس، وقول كعب بن مالك -رضي الله عنه-:
قضينا من تهامة كل ريب   وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت     قواطعهن: دوسا أو ثقيفا
وكان عمر -رضي الله عنه- محدثا ملهما قلما قال لشيء: أظنه كذا.. إلا كان كما قال، وكان يقول:
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما      يقال لشيء كان إلا تحققا
وهذا هو التفاؤل الإيجابي الحذر، وليس التمنيات العريضة الفارغة .
وهكذا استقبلت أنفسهم خبر الصدق عن هذا الدين وأهله وما سيقع له من التفوق والانتشار، وما سيطرأ عليه من النقص والخلل والفتنة.

كما أن من المحقق أيضا أن الراشدين من رجال هذه الأمة لم يعتبروا هذه مواعدات شخصية لذواتهم، ولا تعذيرا للنفس بترك العمل والمجاهدة والتصحيح المفترض، ولا حجة شرعية بتجاوز الأسباب وإغفال السنن.
حتى الموعودون بالجنة تبشيرا صادقا لم يعن هذا لهم خروجا على قانون الشريعة، ولا تنصلا من الأمر والنهي، ولولا ما علم الله عنهم من الثبات على دينه ومحاذرة التجاوز ما كانوا أهلا لذلك الوعد الكريم.
ومن الخلل المصاحب لهذا الضرب في الحياة الإسلامية المعاصرة اعتبار ضمان المستقبل لهذا الدين، وهذه الأمة تكأة للقعود والتواكل ومضغ الحديث مكتفين بأن دين الله منصور، بينما هو منصور بجهود مباركة زكت فيها النية وحالفها الصواب، وقرأت المعطيات وتذرعت بالأسباب.
ومن ذلك الغفلة الشديدة عن قراءة المقدمات والبوادر، والوقوع في أسر المفاجآت، والانسياق لردات الأفعال الوقتية العابرة دون أن نمتلك نظاما فكريا منهجيا جادا، ولا رؤية موضوعية واعية، وربما صح هذا بإطلاق أو كاد، فالعالم الإسلامي بحكوماته ومؤسساته وتياراته يفتقر إلى مراكز الدراسات الحديثة التي تشكل "العقل المدبر" له.

وفي تقديري أنه حتى في الدوائر الأكثر تحديدا فثمت غياب مخيف للتفكير الاستراتيجي المستجمع للشروط.
وهذه دعوة إلى الجامعات العلمية والمؤسسات القادرة والتجمعات المهمومة بحاضر الأمة ومستقبلها أن تولي هذا الأمر اهتمامها، وأن تعنى بتربية شباب الأمة ورجالها على التفكير الواعي، وأن يجمعوا إلى الإخلاص الصواب.
والمسلمون اليوم يعايشون أزمات متلاحقة تضرب في جوانب حياتهم كلها بلا استثناء، وفي دولهم كلها بلا استثناء، ولعله يصح لنا أن نقول بثقة: إن الأزمة في حقيقتها مقيمة مستقرة في ذواتنا وشخوصنا، وما الأزمات الطارئة إلا بعض تجلياتها وآثارها، وكأن العالم الإسلامي في حالة مخاض متواصلة يجد متاعبها وآلامها، ويدفع ثمنها، ولكنه لا يشهد لها أثرا ولا يبصر لها نهاية .
وفي مثل هذه الحال يغدو التفريط والتساهل في دراسة المستقبل واحتمالاته ورسم الخطط المكافئة تفريطا في الضروريات، وغفلة عما أوجب الله على العباد من التدبر والنظر والتخطيط، ولعل من أثر ذلك الانشغالات الجزئية بهموم خاصة عن هم الأمة الكبير.

ولعل من طريف ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أوقات الحرج يسائل أصحابه:" هل رأى أحد منكم رؤيا؟ "، والرؤيا الصالحة هي أحد النوافذ إلى قراءة المستقبل إذا كانت على حد الاعتدال والتوسط، وسيرد عنها حديث خاص بإذن الله.
إنه لمن المدهش أن تجد في ظل غياب التفكير الجاد في أمر المستقبل؛ سواء كان المستقبل الشخصي للفرد في حياته العملية والاقتصادية والاجتماعية، أو المستقبل العام للأمة أو مجموعاتها أن تجد حضورا مذهلا للكهنة والعرافين والمنجمين الذين يفيضون على الناس خليطا من التجربة العادية، ومن وحي الشياطين، ومن الحدس والبراعة، ومن الخداع والاستغفال، ويتفننون في توظيف المشتركات البشرية؛ التي لا يخلو عنها أحد فيستهوون بذلك السذج والبسطاء، ويخدرون عقول العامة، ويتقحمون حرمة الغيب المصون: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون)[النمل:65]، وهذا ما تجده في برامج الحظ والأبراج في القنوات الفضائية أو الإذاعات أو الصحف، وهو ما تجده أيضا في الزوايا المظلمة التي يقبع فيها السحرة ومستخدمو الجن والمشعوذون حيث تذبح الأديان والعقول، وتهدر الأموال بلا حساب .
وللمرء أن يطول عجبه من أمر هذه الأمة في غفلتها عما أوجب الله عليها، وهجومها على ما حرم، وانتهاك بعض منتسبيها لأستار الشريعة وادعاؤهم ما ليس لهم به علم .

إن المنطقة الإسلامية تمر بتحولات عميقة، ولا أزعم أن ثمت تغييرا شموليا يتم تحضيره، لكن ربما تشهد المنطقة أحداثا جادة، وأزمة مفتوحة يعلم الله وحده نهايتها، وقد يحق لنا أن نتحدث عن فترة انتداب جديدة، وعن فوضى قد تضرب أجزاء من المنطقة في جانب أو آخر .
وإذا كان هذا من الغيب، فهو من الغيب الذي جعل الله له مفاتيح تلتمس بدراسة المقدمات والأسباب، وقراءة الواقع في المنطقة ذاتها، وتحري أهداف السياسة الغربية، والأمريكية خاصة، في مرحلتها المقبلة والعوامل المؤثرة فيها، واستحضار التجارب المشابهة .
فهل يصحو المخلصون من سباتهم ويتفطنون لهذا، وهل يستمع المعنيون إلى أصوات الرشد؛ التي تدعو إلى تجاوز الماضي، ومواكبة الأحداث، وتطوير الذات، والامتثال لمخاطبات التغيير الناصحة المشفقة (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)[هود:88]

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة