احتجاج النُّحاة بالحديث النّبويّ 2-2

0 886

تدور بعض الشبهات والتساؤلات حول قضية الاحتجاج بالحديث النبوي في المسائل النحوية؛ ولذا فإننا سنبسط القول بشأنها، وردود أهل الشأن عليها، ويمكننا ابتداء حصر هذه الشبهات - إجمالا - في ثلاث دعاوى:

الأولى: دعوى رواية الحديث بالمعنى.
الثانية: دعوى اللحن والخطأ في الحديث.
الثالثة: دعوى تدوين الحديث بعد فساد اللغة.

وقد دار النقاش بين أهل الاختصاص من المانعين والمجيزين لهذه الدعاوى على النحو الآتي:

أولا: دعوى رواية الحديث بالمعنى: زعم بعض النحاة أن رواة الحديث النبوي كانوا يتساهلون في الألفاظ النبوية وينقلونها بالمعنى، وقد رد العلماء على ذلك بما يأتي:

أ- أن كثيرا من علماء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ذهبوا إلى عدم جواز رواية الحديث بالمعنى، وفي مقدمتهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان لا يسمح بتقديم كلمة على كلمة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر علماء الحديث أنه روى أكثر من ألفين وستمئة حديث، فمذهبه رواية الحديث باللفظ، وكذلك كان بعض علماء التابعين؛ لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى، فالإمام مالك رحمه الله كان يتحفظ من الباء، والتاء، والثاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ب- ورود الحديث الواحد في ألفاظ مختلفة قد يكون سببه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيد الكلام ثلاثا لقصد البيان وإزالة الإبهام، فقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه".

ج- بعض الصحابة والتابعين أجازوا رواية الحديث بإبدال كلمة بأخرى عند الضرورة، ومع ذلك فقد وضعوا في ذلك ضوابط محكمة دقيقة، فالإمام الشافعي رحمه الله أجاز للمحدث أن يأتي بالمعنى دون اللفظ إذا كان عالما بلغات العرب، ووجوه خطابها، بصيرا بالمعاني والفقه، عالما بما يحيل المعنى، وما لا يحيله، فإنه إذا كان بهذه الصفة جاز له نقل اللفظ، فإنه يحترز بالفهم عن تغيير المعاني وإزالة أحكامها، ومن لم يكن بهذه الصفة كان أداء اللفظ لازما، والعدول عن هيئة ما يسمعه عليه محظورا.

ومن أبرز العلماء الذين ردوا رواية الحديث بالمعنى: البدر الدماميني؛ فقال في شرح التسهيل ردا على أبي حيان، ومدافعا عن ابن مالك: "قد أكثر المصنف من الاستدلال بالأحاديث النبوية، وشنع أبو حيان عليه... ، وقد أجريت ذلك لبعض مشايخنا، فصوب رأي ابن مالك فيما فعله، بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب، إنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية... ، ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى إنما هو فيما لم يدون، وأما ما دون وحصل في بطون الكتب فلا يجوز التبديل من ألفاظه من غير خلاف بينهم، قال ابن الصلاح بعد أن ذكر اختلافهم في نقل الحديث بالمعنى: إن هذا الخلاف لا نراه جاريا، ولا أجراه الناس - فيما نعلم - فيما تضمنته الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف، ويثبت لفظا آخر".

ثانيا: دعوى اللحن والخطأ: ذهب بعض النحاة إلى أن من الأسباب التي تدفعهم إلى عدم الاحتجاج بالحديث الشريف في المسائل النحوية وقوع الخطأ واللحن فيه، وأن معظم رواته من الأعاجم، وقد رد علماء اللغة على هذه الدعوى بأن ذلك ينبغي ألا يكون مانعا للاحتجاج النحوي بالحديث النبوي للأمور الآتية:

أ- لقد بذل العلماء المسلمون جهودا عظيمة في سبيل حفظ الحديث الشريف، وبحثوا فيما يتعلق به رواية ودراية، وخطوا خطوات جليلة كفلت سلامة السنة من العبث، ولعل من أهمها التزام الإسناد، ودراسة حياة الرواة وتاريخهم، وهكذا نشأ علم الجرح والتعديل، الذي وضع أسسه كبار الصحابة والتابعين، وألفت في الرواة مصنفات ضخمة، حتى إنه لم يعد يختلط الكذابون والضعفاء بالعدول الثقات، وأصبح من السهل جدا أن يميزوا الخبيث من الطيب في كل عصر، فقدموا للحضارة الإنسانية أعظم إنتاج في هذا المضمار، يفخر به المسلمون أبد الدهر.

ب- القول بأن أكثر رواة الحديث كانوا غير عرب، لا ينهض حجة لرفض الاحتجاج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في المسائل النحوية، وذلك لأن ما وقع من لحن أو خطأ أو تصحيف في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل نادر، بينه علماء الحديث فيما صنفوا من مؤلفات، كما أن اللغة العربية ملك لمن يتعلمها فيتقنها، فإن أتقنها فليس هناك فرق بينه وبين العربي سوى النسب، والنسب لا أثر له في اللسان، كذلك فإن هؤلاء المسلمين الأعاجم من رواة الحديث كانوا أمراء المؤمنين في الحديث، وقد وصفوا بالضبط والدقة، وحملوا الحديث على أكمل وجه، وأدوه كما حملوه، مثل: الإمام البخاري رحمه الله وغيره.

ثالثا: دعوى تدوين الحديث بعد فساد اللغة: زعم بعض النحاة أن الحديث النبوي لا يحتج به لتدوينه بعد فساد اللغة، وقد رد العلماء على ذلك بما يأتي:

أ- لقد بدئ بتدوين الحديث النبوي الشريف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا مني؛ إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب".

ب- ثم جاء عهد الصحابة رضوان الله عليهم فقام بعض العلماء من التابعين بتدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذا من أحد الصحابة مباشرة، فهذا همام بن منبه أحد أعلام التابعين يلقى أبا هريرة رضي الله عنه، ويكتب عنه كثيرا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويجمعه في صحيفة يطلق عليها اسم (الصحيفة الصحيحة)، وقد نقلها الإمام أحمد بتمامها في مسنده، كما نقل الإمام البخاري عددا كثيرا من أحاديثها في أبواب شتى، وهذه الصحيفة حجة قاطعة على أن الحديث الشريف دون في عصر مبكر.

ج- ثم كان عصر التابعين فشاع تدوين الحديث وكتابته، فهذا الحسن البصري يقول: "إن لنا كتبا كنا نتعاهدها"، وأما التدوين الرسمي للحديث فقد بدأ في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ إذ كتب إلى عامله على المدينة النبوية أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يقول: "اكتب إلي بما ثبت عندك من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فإني خشيت درس العلم وذهابه".

فهذه مجمل الردود والمناقشات بإيجاز بين المانعين للاحتجاج بالحديث النبوي في اللغة والمجيزين لذلك.

وبناء على ذلك؛ فإن المنهج الصحيح - كما أثبته علماء السلف والخلف - أن الحديث النبوي هو الأصل الثاني بعد القرآن الكريم في تقعيد القواعد النحوية، والصرفية.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة