- اسم الكاتب:الدكتور: محفوظ ولد خيري
- التصنيف:ثقافة و فكر
تمتاز القصة من بين مظاهر وأشكال النص الأخرى بالديناميكية والحركة التي تنشط كلال العقول وتحرك ركود التركيز؛ حيث تجسد القصة الأحداث في شخوص ومشاهد يتحرك معها القلب، ويدور معها الفؤاد، تنشط الآذان والعقول لسماعها ولاستمتاع بها، فهي بذلك تثير الانتباه وتجذب تركيز الحواس، وتنشط مستقبلات التأسي والاقتداء في النفس البشرية للاقتداء بمثلها العليا النبيلة والاعتبار بمصائر الخاسرين فيها والفاشلين؛ ومن ثم فإن أسلوب القصص يعتبر من أنجح الأساليب للتقويم والنصح والإرشاد، بما له من تأثير في النفس، وانطباع في الذهن، وحجج منطقية وعقلية تأسر نفوس المدعوين، وسنقف في هذا المقال على تشريح مجمل وموجز لأحسن القصص؛ قصص القرآن الكريم التي تعتبر معينا لا ينضب من الجمال والجلال، وحسن العرض وقوة التأثير، وفي الواقع فإن خصائص القصص القرآنية كثيرة لكن إذا ما توقفنا عند أهمها لنستشرف من خلاله المنهج القرآني في السرد فسنلاحظ ما يأتي:
أولا: الواقعية:
قصص القرآن الكريم ليست مفتراة من وحي الخيال ولا فيها انحرافات عن مسار الواقع لتشويق السامع؛ بل هي كما قال الله تعالى عنها: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [يوسف: 111]، وقال عز من قائل: {إن هذا لهو القصص الحق} [آل عمران: 62]؛ وعن أصحاب الكهف قال: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} [الكهف: 13]، ذلك لأن الاعتبار بالقصة لا يحصل إلا إذا كانت خبرا عن أمر واقع، لأن ترتب الآثار على الواقعات ترتبا طبيعيا من شأنه أن يرتب أمثالها على أمثالها كلما حصلت في الواقع، إضافة إلى أن تحقق حصولها في السابق يجعل من احتمال تكررها مرة أخرى أمرا واردا وممكنا بخلاف القصص المنسوجة من وحي الخيال فإنها لا يحصل بها اعتبار، لاستبعاد السامع وقوعها لأن أمثالها لا يعهد، مثل مبالغات الخرافات وأحاديث الجن والغول عند قدماء العرب وقصص رستم وأسفنديار عند الفرس وملاحم جلجامش في الأدب السومري، فالسامع يتلقاها تلقي الفكاهات والخيالات اللذيذة ولا يتهيأ للاعتبار بها ولذلك لا تحتفظ بها النفوس ولا تعتبر.
ثانيا: الانتقاء والاختيار:
لا ريب أن القرآن كتاب مفتوح على تاريخ البشرية من لدن أبيهم الأول آدم عليه السلام وإلى منتهى البشرية بل هو يخترق حاجز الزمان ليتحدث عن أمور المحشر والمعاد والمآل وحكاية أحوال الناس في الجنة والنار والأعراف، ومن الأحداث الكثيرة التي تحدث في هذه الأزمنة المتطاولة والأعمار المتباعدة السحيق منها والقادم ينتخب القرآن ويختار من بين كافة هذه الأحداث المفيد منها والأحسن الذي تترتب عليه النتائج المفيدة لنا؛ وفي ذلك يقول الله تعالى مخاطبا الأمة كلها في شخص نبيه صلى الله عليه وسلم: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافل} [يوسف: 3].
ثالثا: ترك فراغات في القصص القرآني يستمتع الذهن بملئها:
من مميزات أسلوب المنهج السردي في القرآن طي الأحداث التي يقتضيها ويدل عليها الكلام الوارد، وترك فجوات بين المشهد والمشهد؛ بحيث تترك بين كل مشهدين أو حلقتين فجوة؛ تتيح للعقل حرية الحركة وللخيال الاستمتاع بملء ما بين السطور وإقامة القنطرة بين المشهد السابق واللاحق، من أمثلة ذلك ما حكاه الله تعالى عن قصة أصحاب القرية الذين كذبوا ثلاثا من الرسل ثم هدى الله رجلا منهم فأشهر إسلامه قائلا: {إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة } [يس: 25، 26]؛ أي: فلما أشهر إيمانه قتلوه فقيل له ادخل الجنة؛ فحذفت هذه الجمل جميعا لدلالة السياق عليها، وهذه الخاصية مطردة في جميع قصص القرآن تقريبا.
رابعا: الإعراض عن الحشو وفضول التفاصيل غير المفيدة للسامع:
من محاسن التنزيل وبلاغته الخارقة الإيجاز في القصص والإشارة إلى روحها وسرها، دون الإرهاق بالتفاصيل المتعلق بتأطير الأحداث زمانيا ومكانيا وأسماء وأنساب أبطالها ومواصفاتهم إلى غير ذلك من التفاصيل التي لا يعتني النص القرآني باستقصائها؛ إذ هي خارجة عن مرامي أهدافه والعبرة إنما تستخلص فيما وراء ذلك من ضلال المتحدث عنهم أو إيمانهم وفيما لذلك من أثر عناية إلهية أو خذلان؛ فمثلا قصة مذبحة أصحاب الأخدود تختزلها سورة البروج في ثلاث آيات فقط ثم تذيل الحديث بالدروس والعبر المستقاة منها؛ فهي لا تحدثنا عن عدد ضحايا هذه المحرقة ولا الزمان والمكان اللذين احتضنا أحداثها ولا عن الملك الذي أجرم في حقهم لأن ملف القضية أغلق ورفعت إلى أعدل العادلين وبقي من حيثاتيها الدروس والعبر المستفادة منها، وكذلك مواضع العبرة في قدرة الله تعالى في قصة أهل الكهف: لم يذكر أنهم من أي قوم؟ وفي أي عصر؟ وكذلك قوله فيها: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة} [الكهف: 19]؛ فلم يذكر اسم من أرسلوه منهم ولا أي مدينة قصد لأن موضع العبرة هو انبعاثهم بعد 309 عام مضت عليهم وهم نيام وفي وصول رسولهم إلى مدينة، وهنا تجدر الإشارة إلى مسألة دقيقة؛ وهي أن هذه التفاصيل والأحداث التي أعرض القرآن عن التوسع فيها غالبا لا تترتب على معرفتها منفعة للمسلم والبحث عنها من فضول الأعمال ولذا فإن أكثر من يهتم بها القصاصون وجامعوا الإسرائيليات؛ روي أن قاصا كان عند عمر بن عبد العزيز فحدث بقصة مفتراة على داود عليه السلام في تفسير قوله تعالى: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داوود ففزع منهم} [ص: 21]، وكان في مجلس عمر بن عبد العزيز رجل من أهل الحق فكذب المتحدث وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر: لسماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
خامسا : أهداف القصة القرآنية:
أما أهداف القصص في القرآن فهي كثيرة من أهمها ربط الخلف بالسلف وتكليل هامة التشريع الإسلامي بذكر تاريخ الشرائع من قبله، كما أن قصص القرآن تبرز بوضوح سنن متقدمي الأنبياء ومعاناتهم في الدعوة وفي الارتقاء بالسلوك الإنساني إلى حدود الكمال البشري لنعلم أن طريق الدعوة إلى الله محفوف بمكاره النفوس وإلجام الشهوات فنصبر كما صبروا لنفوز كما فازوا؛ {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم} [النساء: 26]، وقال تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود: 49]، كذلك فإن قصص القرآن تمثل منهجا متكاملا للاستفادة من رصيد التجربة الإنسانية والتاريخ البشري كله بتوعية اللاحقين بأنباء السابقين ومصائرهم.
يجدر التنبيه أخيرا إلى أن القصص في القرآن لا تأتي متتالية في سورة أو متعاقبة في سور متصلة كما هو الحال في كتب الروايات والتاريخ، بل هي مفرقة موزعة على مقامات تناسبها، لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع، وهذا الأسلوب القرآني الخاص في السرد القصصي هو الأسلوب المعبر عنه بالتذكير وبالذكر وهو أجل من أن يقارن بأسلوب القصاصين في سوق القصص لمجرد معرفتها لأن سوقها في مناسباتها يكسبها صفتين: صفة البرهان وصفة التبيان كما يقول العلامة بن عاشور .
وأيضا فإن القصة الواحدة قد ترد موجزة مرة ومطولة أخرى ليحصل من ذلك الاطلاع على جمال البلاغة وجلالة النظم، وعلى الفصاحة في طرفي الإيجاز والإطناب.