نبض الحياة في لُغة الحديث النّبوي

0 869

اهتمت البحوث اللغوية الحديثة بالتغيرات الاجتماعية وأثرها في التشكيل النحوي للغة، ولهذا قرر علماء اللغة بيقين أن اللغة هي (الحقيقة الاجتماعية بأوفى المعاني).

ويعرف الباحثون اللغويون أن من جملة ما تستدركه اللسانيات الاجتماعية على منهج البحث في علم اللسان الحديث هو إغفاله للسياق الذي تستعمل فيه اللغة، وكيفية تفاعلها مع محيطها، والنظر إلى العوامل الخارجية التي تؤثر في استعمال اللغة.

وعندما طالع بعض علماء اللغة حديث النبي صلى الله عليه وسلم بعين الفحص والتدقيق على طاولة البحث اللغوي، هالهم التصوير الصادق للحياة المتدفقة في لغة الحديث النبوي الشريف، وأحسوا فيها بنبض الحياة، وحركة الناس، واختلاط الأصوات؛ ذلك أن المفردات اللغوية للحديث النبوي، وارتباطها بالموقف والسياق، تكاد تتحول إلى صور متحركة نابضة بالحياة، يشهدها القارئ، ويكاد يلمسها بيديه.

وهي خصيصة كبرى، وسمة بارزة في لغة الحديث النبوي الشريف تبرز مظاهر الحياة الاجتماعية، وتعطي صورة صادقة عن وقائع العهد النبوي بكل شمولية، وصلة الحديث بالمتكلم والمخاطبين بأدق المعاني.

ويرى بعض الباحثين أن كل حديث نبوي شريف يصلح لأن يكون مثلا على هذه الحقيقة؛ ومن هذه الأمثلة: ما روته عائشة رضي الله عنها أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: (خذي فرصة من مسك فتطهري بها)، قالت: كيف أتطهر؟ قال: (تطهري بها)، قالت: كيف؟ قال: (سبحان الله، تطهري)، فاجتبذتها إلي فقلت: "تتبعي بها أثر الدم" رواه البخاري.

فإن القارئ لهذا الحديث يشعر كيف تكاد تنطق الكلمات حتى كأنه يشاهده رأي العين، ويحس بسمو لغة النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول للمرأة: (تطهري بها)، فلا تفهم المرأة المراد، فيقول لها بحياء الرجل وحرجه - بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه -: (سبحان الله، تطهري)، معلنا - بكل رقي - أنه لا يستطيع أن يصرح بأكثر من ذلك.

ثم تأتي مقولة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: "فاجتبذتها" لتعطي صورة حية لسرعة تصرف أم المؤمنين، ومحاولتها تخليص النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الحرج، والحرص على إفهام المرأة.

ومثال آخر لحديث نبوي ممتد يظهر فيه تعبير الإنسان عن أفكاره، وتصويره لمشاعره، وتلون أفكاره، في حوار واقعي صادق، لو اجتمع أهل الأرض كلهم ما استطاعوا أن يضعوا مثل ما فيه من حياة، وحرارة، وصدق:

فعن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنكم تسيرون عشيتكم، وليلتكم، ثم تأتون الماء غدا إن شاء الله)، قال: فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد في المسير، قال أبو قتادة: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار الليل، وأنا إلى جنبه، فنعس النبي صلى الله عليه وسلم، فمال على راحلته فأتيته، فدعمته من غير أن أوقظه، حتى اعتدل على راحلته، ثم سار حتى إذا تهور الليل، مال عن راحلته، فدعمته من غير أن أوقظه، حتى اعتدل على راحلته، ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر، فمال ميلة هي أشد من الميلتين الأوليين، حتى كاد أن ينجفل فأتيته فدعمته، فرفع رأسه، وقال: (من هذا؟)، فقلت: أبو قتادة، قال: (مذ كم كان هذا مسيرك)، قلت: ما زال هذا مسيري منك منذ الليلة، قال: (حفظك الله بما حفظت به نبيه)، ثم قال: (ترانا نخفى على الناس)، ثم قال: (هل ترى من أحد؟)، قلت: هذا راكب، ثم قلت: هذا راكب، فاجتمعنا فكنا سبعة ركب، فمال النبي صلى الله عليه وسلم عن الطريق فوضع رأسه، ثم قال: (احفظوا علينا صلاتنا)، فكان أول من استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره، فقمنا فزعين، فقال: (اركبوا)، فسرنا حتى ارتفعت الشمس، قال: ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء، فتوضأنا منها وضوءا دون وضوء، وبقي فيها شيء من ماء، ثم قال لأبي قتادة: (احفظ علينا ميضأتك)، سيكون لها نبأ، ثم نادى بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى صلاة الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم وركبنا، فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا الذي تهمسون دوني؟)، فقلنا: يا نبي الله، تفريطنا في صلاتنا، قال: (أما لكم في أسوة)، ثم قال: (إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى، فإذا كان ذلك فليصلها حين يستيقظ، فإذا كان من الغد فليصلها عند وقتها)، ثم قال: (ما ترون الناس صنعوا؟)، ثم قال: (أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم)، فقال أبو بكر وعمر: رسول الله بعدكم لم يكن ليخلفكم، وقال ناس: بين أيديكم وأن يطيعوا أبا بكر، وعمر، يرشدوا، فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار، أو قال حين ذهب ظل كل شيء وهم يقولون: يا نبي الله هلكنا وعطشنا، فقال: (لا هلك عليكم)، ثم قال: (أطلقوا لي غمري) يعني: القدح الصغير، فدعا بالميضأة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصب، وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ما في الميضأة تكابوا عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحسنوا الملأ كلكم سيروى)، ثم قال: (أحسنوا الرعة)، ففعلوا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصب، وأبو قتادة يسقيهم، حتى ما بقي أحد غيري، وغير النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اشرب)، فقلت: لا أشرب حتى يشرب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن ساقي القوم آخرهم)، فشربت، وشرب النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى الناس الماء جامين رواء، فقال عبد الله بن رباح: إني لأحدث هذا الحديث في المسجد الجامع، فقال لي عمران بن حصين: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإني أحد الركب تلك الليلة، قلت: يا أبا نجيد حدث، أنت أعلم بالحديث، قال: ممن أنت؟ قلت: من الأنصار، قال: فأنتم أعلم بالحديث، فحدثت القوم، فقال عمران: "لقد شهدت تلك الليلة، فما شعرت أن أحدا حفظه كما حفظته" رواه مسلم.

إن مثل هذا الحديث الشريف - ومثله مئات في الصحيحين وغيرهما -، يدل على أن الأحاديث النبوية تفيض بالحياة، والحركة، والروح.. إنها صور من الحياة الناطقة، وليست مجرد أحاديث مروية مكتوبة في أوراق وصحائف.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة