- اسم الكاتب:أ.د. عبد الكريم بكار
- التصنيف:ثقافة و فكر
الحقيقة أن المشكلات التي يتعرض لها المثقف المسلم وصانع الخطاب الدعوي مشكلات كثيرة جدا، ومن الصعب الإلمام بها، ولو على نحو سريع، فلنعرض إذا إلى بعض ما نراه مهما منها:
1- ثمة داء واسع الانتشار يتعرض له كل من يهتم بالشأن الثقافي ومن كل الاتجاهات والتيارات، وذلك الداء يتمثل في الرغبة الجامحة في الطفو على السطح، وتعجل الظهور أمام الناس بغض النظر عن مدى امتلاكه للأدوات المعرفية وبلورته للمنهج الفكري والعلمي الذي سيسير عليه في صياغة خطابه. هذا التعجل يتم في أحيان كثيرة بسبب ضعف شعور المثقف بمسؤولية التصدي لمهام التثقيف والقيادة الفكرية للناس. ومن وجه آخر فإن هذا التعجل يتم بسبب الإغراءات الكثيرة التي يقدمها الإعلام، ويقدمها المجتمع أيضا لكل من يظن أنه أضحى (شخصية عامة)، أو نجما تلفازيا.
المشكلة أن صانع الخطاب اليوم إذا كان ناجحا فإنه قد يؤثر في الملايين من الناس. وهو عبر رسائله المستمرة يشكل لديهم اتجاها ثقافيا، له محكاته وملامحه ومطالبه.. ثم إذا به يكتشف أن مذهبه الفكري والإصلاحي الذي نشره على أوسع نطاق، يحتاج إلى تعديل وتهذيب، وربما إلى تغيير جذري، وفي هذه الحالة فإن كثيرين منا يخشون أن يدخلوا -من خلال التعديل- الاضطراب على تلك الأعداد الهائلة التي شكلوا وعيها. وأحيانا لا يكون هذا هو الهاجس، وإنما النقص في الشجاعة الأدبية المطلوبة للنقد الذاتي، والتبرؤ من رؤية أو مذهب أو اتجاه.. ومن ثم فإن الذي يتم هو كتم الأفكار الجديدة في الصدور، أو إشاعتها في وسط ضيق عن طريق الأحاديث الشخصية والخاصة. وهذا على المستوى الأخلاقي شيء خطير للغاية، هناك مثقفون كثيرون لا ينظرون إلى شيء من هذا وذاك، ومن ثم فإنهم ينتقلون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولكل يمينه ويساره مما يجعل قراءهم وطلابهم عاجزين عن فهم المنهج الذي يسيرون عليه؛ فتكثر الأقاويل والتفسيرات، ويشيع الغمز واللمز.
ويحدث ما هو أخطر من هذا، وهو ضعف الثقة بالقيادة الثقافية والفكرية، والزهد في أي خطاب توجيهي، وكلنا يذكر ما جرى من التحول المفاجئ لأعداد كبيرة من المثقفين على امتداد العالم من النقيض إلى النقيض، وذلك حين انهار (الاتحاد السوفيتي)؛ إذ رأينا الكثيرين ممن كان ينظر لتحكم الدولة، والاقتصاد الاشتراكي، وحقوق العمال، وقد صاروا بين عشية وضحاها من دعاة الليبرالية والتعددية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق، وبعضهم فعل ذلك بفجاحة وغلظة غير مدرك خطورة ما أقدم عليه!
وفي الساحة الإسلامية رأينا كثيرين من الكتاب والمفكرين اشتغلوا ردحا من الزمن بالحديث عن انهيار البلد وتفاقم الأوضاع وضرورة الإسراع في الإصلاح قبل فوات الأوان... وبعد مدة إذا بهم يعرضون عن كل ذلك، ويشرعون في الحديث عن التربية وتعليم الناس أمور دينهم وأهمية النهوض بالفرد.. وصار إلى جانب ذلك لا يألو جهدا في إيجاد المسوغات للأوضاع السائدة!
وكم من مثقف كان الحديث عن الشعر والأدب والنقد شغله الشاغل، فإذا به يتحول عن ذلك إلى التحدث في الشؤون السياسية والقضايا الاستراتيجية والتنموية.. لا شك في مشروعية الترحال والتحول الثقافي؛ إذ إنه يعبر عن استمرار النمو والنضج لكن بشرط ألا يتم ذلك بدوافع مصلحية وانتهازية. ومع هذا فإنه يجب أن يتم بوضوح تام، ويجب أن يشرح المثقف لأولئك الذين كون وعيهم، وأثرت فيهم ملامح رؤيته الجديدة، وأسباب انتقاله وتقويمه للمرحلة السابقة.
وهذا في الحقيقة لا يحدث إلا قليلا؛ إذ إننا تعودنا دائما الحديث عن إنجازاتنا وفتوحاتنا الفكرية والثقافية، ونجد في الوقت نفسه صعوبة بالغة في الحديث عن الأشياء التي لم نفهمها والأخطاء الثقافية التي وقعنا فيها. وهذا يعود إلى البيئة الاجتماعية التي لا تفتأ تلح على الظهور بمظهر الكمال في كل الظروف والأحوال!
لا يخفى أن كثرة اختلاط المثقف بالناس وانفتاحه عليهم على نحو مسرف، يحرمه من العثور على الوقت المطلوب للتأمل في تحولاته الفكرية، ولتجديد ثقافته والتواصل مع المنتجات الفكرية الجديدة، مما يجعل ما لديه من أفكار ومقولات معرضا للتقادم والتآكل، والذي ينتج عنه التكرار الممل.
الخلاصة أن علينا التريث في الظهور والاستعداد له على نحو مناسب، وإذا وجدنا أنفسنا مغمورين بالأضواء، فلنتعلم كيف نخطو خطوة إلى الوراء حتى نظل على تواصل مع مصادر التثقف، وعلينا إلى جانب هذا أن نحدس بالتطورات الثقافية القادمة من أجل المزيد من الوعي بالموقف الفكري الذي يجب أن نتخذه منها، وذلك بقصد تجسيد العلاقة بين الحاضر والمستقبل وإضفاء المنطقية على حركة الفكر خلالهما.
2- المثقف المسلم مهدد دائما بأن تتحول مهمته التبليغية والإرشادية من رسالة تملأ العقل والروح، وتشغل البال إلى حرفة أو وظيفة أو التزام أمام فلان وعلان. إن الذي يصنع خطابه وهو موقن بشرف المهمة التي يتصدى لها، وبأهميتها في إصلاح الناس، يتكلم ويكتب ويحاور، وهو مشتعل حماسا وحيوية وأملا ببلوغ مراضي الله تعالى، ونيل توفيقه. إنه يجعل من طاقته ووقته وقودا حيا لتحريك المجتمع في الاتجاه الصحيح.
وإن من شأن هذه الحالة أن تولد الإبداع والفاعلية والاستمرار في العمل، إنه بسبب إخلاصه وصدقه وحماسته يظهر قدرا كبيرا من الفرادة والتميز، ويعبر عن تجربة فذة وغنية، وسيكون الأمر مختلفا جدا حين يتكلم الإنسان لأنه خطيب جمعة. وحين يعظ لأنه عين على وظيفة واعظ وإلا لما وعظ. وحين يكتب يوميا لأن هناك عمودا يجب أن يقرأه الناس يوميا وقد طرز اسمه.. إن العمل حينئذ سيكون رتيبا وكئيبا، ويكون عند الحد الذي يسمح باستمراره ليس أكثر.
وهذه المشكلة واسعة الانتشار إلى درجة أنها تصلح مفسرا –مع تفسيرات أخرى- لحالة عدم الفاعلية التي نراها لدى كثير من الكتاب والدعاة. قد نكون في هذه المرحلة بحاجة إلى عدد كبير من الأبطال الذين يرفعون الرايات، ويقدمون النماذج الرفيعة في الحرص على التأبي على التحول من موقع الرائد إلى موقع الموظف أو المنتفع. وما أشد الفرق بين النائحة والثكلى !