الحَذْفُ في جُملة الحديث النبويّ الشّريف

0 1110

الحذف ظاهرة لغوية تشترك فيها جميع اللغات الإنسانية، لكنها في اللغة العربية أكثر ثباتا ووضوحا؛ لأن اللغة العربية من خصائصها الأصيلة: الميل إلى الإيجاز والاختصار، والحذف يعد أحد نوعي الإيجاز؛ وهما: القصر والحذف، وقد نفرت العرب مما هو ثقيل في لسانها، ومالت إلى ما هو خفيف.

والحذف في اللغة: القطع والإسقاط؛ جاء في (الصحاح): "حذف الشيء: إسقاطه، يقال: حذفت من شعري ومن ذنب الدابة، أي أخذت... وحذفت رأسه بالسيف، إذا ضربته فقطعت منه قطعة".

وقد عني القدماء - من نحاة وبلاغيين - بدراسة هذه الظاهرة، لكن بعضهم خلط بين الحذف والإضمار؛ ولذلك قال أبو حيان الأندلسي: "وهو موجود في اصطلاح النحويين، أعني أن يسمى الحذف إضمارا"، وقال الشهاب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي: "وقد يستعمل كل منهما بمعنى الآخر كما يعلم بالاستقراء".

ويذكر البلاغيون ضرورة تقدير المحذوف؛ حتى لا يحمل الكلام على ظاهره، وحتى يكون امتناع ترك الكلام على ظاهره ولزوم الحكم بالحذف راجع إلى الكلام نفسه، لا إلى غرض المتكلم.

ومن روائع الجماليات اللغوية التي وقف عليها الباحثون الذين تعمقوا في دراسة لغة الحديث النبوي الشريف؛ هو: الحذف في جملة الحديث، ويقصدون بالحذف أي الاستغناء عن جزء من الكلام لدلالة السياق عليه، ودلالة السياق هذه هي ما سماه النحاة الأوائل "الحال المشاهدة"، وتمثل الحال المشاهدة التي تقع فيها الحدث الكلامي، كالعنصر من عناصر الكلام لديهم، وتكون مسوغا ثابتا للحذف.

والتعبير بـ"الحال المشاهدة" مصطلح صريح من مصطلحاتهم، واتخاذه دليلا على الحذف خاصة أصل متواتر في كتبهم، كما نص على ذلك المختصون وأهل اللسان.

وقد لاحظ الباحثون أن الحذف في الحديث النبوي الشريف كثير جدا، وهو أمر بدهي، ومنسجم مع السمة العامة الكبرى للحديث الشريف؛ وهو دلالته على الحياة اليومية، وانبثاقه من واقع المسلمين وهمومهم الحاضرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل حديثا إلا على مسمع من الناس، حتى ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من أدعية في جوف الليل، فإن هناك من سمعه وروى عنه، مثل ما روته أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بشكل خاص، وما روته بقية أمهات المؤمنين أو أنس بن مالك رضوان الله عليهم جميعا.

وقد كان الناس محيطين بالنبي صلى الله عليه وسلم في الليل والنهار، والسلم والحرب، في المسجد وفي البيت، وهو صلوات الله وسلامه عليه دائم التبشير، والإنذار، والنصح، والتوجيه، والتعليم يسعى إلى الناس فيدلهم، ويذكرهم فيسألونه، ويستمعون إليه، وخلال هذه الحياة المستمرة، والسيرة المعطرة، قيلت الأحاديث النبوية الشريفة، مبادرة بأمر أو نهي، أو ردا على سؤال، أو حسما لحوار، أو دعوة بخير، أو توجيها لمسير، أو تصحيحا لقول.

لذا فإن (الدليل الحالي أو المقالي) - كما ذكر ابن هشام في "مغني اللبيب" وغيره من أهل اللغة - على ما قد يحذف من القول لدلالة السياق عليه قائم حاضر دوما، وهذا الذي دعى الباحثين الذين دققوا في لغة الحديث إلى القول بأن سمة الحذف في الحديث النبوي سمة بارزة منتشرة لا تكاد تحصى.

وقد وقع الحذف في الحديث النبوي الشريف في الأدوات، وفي أركان الجملة ومكملاتها، وفي كل نمط من أنماطها، وقد خلص الباحثون اللغويون إلى أن المتأمل في شواهد الحذف في الحديث الشريف يجد أنها تسمو بنمط عال في أسلوب التعبير، يحقق أسمى ما حاول علماء البلاغة أن يصوروه في كتبهم، ولعل من المناسب ذكر بعض الأمثلة من الأحاديث الصحيحة المروية في صحيحي البخاري ومسلم:

أولا: حذف الفعل الماضي:

مثاله حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (...فجمعه الله؛ فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك. فغفر الله له) رواه البخاري، والتقدير: فعلت ذلك من خشيتك.

ثانيا: حذف الفعل المضارع:

مثاله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: ...فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ، وهو يضحك، قالت - يعني أم حرام بنت ملحان -: فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله...) متفق عليه، وتقدير الكلام: يضحكني ناس من أمتي.

ثالثا: حذف الجملة الشرطية:

مثاله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: .... فقال له - يعني عبد الرحمن بن عوف - رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مهيم)؟ قال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: (ما سقت إليها)؟ قال: وزن نواة من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة) متفق عليه، وتقدير القول: أولم ولو أولمت بشاة كفاك.

وتدل هذه الأحاديث النبوية الشريفة على جمال التعبير عندما يكون الحذف متسقا، ونابعا من دلالة السياق، ووضوح المعنى، وهذا الذي دفع عبد القاهر الجرجاني إلى القول في (دلائل الإعجاز في علم المعاني): "هذا باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، والصمت عن الإفادة، أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن، وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر، وتدفعها حتى تنظر".

ولعل أسلوب التعبير في الحديث النبوي الشريف هو أعلى قول يحقق هذا الوصف، أو يتحقق فيه هذا الوصف، وقد أجمع النحاة، وعلماء البلاغة على أن ذكر ما يدل عليه السياق إرهاق للقول، وتفصيل لا داعي له، في حين أن حذف ما لا فائدة فيه هو اختصار للكلام، وتقريب معانيه إلى الأفهام.

وخلاصة القول: إن الحديث النبوي الشريف قد التزم أسلوب الحذف في كل موضع يسعف فيه السياق، ودلالة الحال المشاهدة، كما في اصطلاح النحاة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة