- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:لغويات حديثية
عمد بعض الباحثين إلى دراسة جملة الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في صحيحي البخاري ومسلم دراسة لغوية معمقة، ساهمت في بيان قيمة الحديث النبوي من وجهة النظر اللغوية، وأشارت إلى ملامح من بلاغة الحديث وفصاحته، وقدمت معيارا جديدا - غير مسبوق - يميز الأحاديث الصحيحة من غيرها، بجانب ما قرره أهل العلم في هذا الشأن فيما يتعلق بالسند والمتن ومعرفة طرق الرواية وعدالة الرجال، ولفت انتباه الباحثين عدد من الخصائص الفريدة، والسمات المميزة للغة الحديث الشريف حينما دققوا النظر في جمله، وخلصوا إلى مجموعة من السمات والخصائص؛ ومن ذلك:
الثانية عشر: شيوع أسلوب التوكيد في الحديث الشريف:
تتفق هذه السمة في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام مع مهمة التبليغ، والتعليم في مجتمع كانت تغلب عليه الأمية والجهل، فكل ما كان يبلغه - صلى الله عليه وسلم - كان جديدا لمن يسمعونه، ويشاهدونه لأول مرة، فكان لا بد من تأكيد القول من أجل تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة حق الأداء.
وقد وجد الباحثون أن الحديث الشريف استخدم كل أساليب التوكيد المعروفة في لسان العرب، من التوكيد اللفظي والمعنوي، وغيرهما من أنواع التوكيد التي أشار إليها النحاة في كتبهم، ومن أمثلة ذلك:
حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟) قالها ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)، قال: وكان متكئا فجلس، قال: (وقول الزور)، قال: فما زال يقولها حتى قلنا: ليته سكت. متفق عليه.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله تعالى يغثنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) متفق عليه.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون) متفق عليه.
الثالثة عشر: شيوع أسلوب الشرط في الحديث الشريف:
شاع أسلوب الشرط في الحديث النبوي، حتى إن الجملة الشرطية تكاد توازي الجملة الاسمية، أو الجملة الفعلية في حجمها، وقد تنوعت أدوات الشرط في الحديث بين (من)، و(إذا)، و(إن)، و(أما)، و(لو)، و(لولا)، وغيرها.
وخلص بعض الباحثين - بعد الإحصاء الدقيق - إلى أن (من) الشرطية ترددت في الحديث الشريف أكثر من (إن) الشرطية التي هي أم الباب في اصطلاح النحاة، كما أنها من أكثر أدوات الشرط شيوعا في كل قول ما عدا الحديث الشريف؛ من أجل ذلك رأى المختصون اللغويون أن أسلوب الشرط خصيصة امتازت بها لغة الحديث، ومن أمثلة ذلك:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) متفق عليه.
الرابعة عشر: شيوع أسلوب القسم في الحديث الشريف وتنوع ألفاظه:
القسم من الخصائص البارزة في الحديث الشريف، وله حضور واضح في جملته، وقد لاحظ الباحثون تعدد ألفاظ القسم في الحديث الشريف، وجدتها، واختصاص بعضها بالحديث النبوي إذ لم تعرف قبله، ولم تنتشر بعده؛ مثل: (والذي نفسي بيده، والذي نفس محمد بيده)، كما لاحظوا أن ألفاظ القسم وأدواته التي شاعت؛ هي: القسم باللام، والقسم بالواو، وقد ورد فيها: (وأيم الله - ورب الكعبة - والذي نفسي بيده - والذي نفس محمد بيده - والله - ومقلب القلوب).
ومن الأمثلة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا - يعني - ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا، فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (تدرون بما دعا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه العظيم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم.
الخامسة عشر: شيوع الدعاء في الحديث الشريف:
من السمات المميزة للحديث النبوي الشريف الدعاء بما فيه من بلاغة، وبيان، وسحر الألفاظ، وعمق المعاني، وروعة الإخلاص، والتبتل فيه، وأنه يصنع عالما من الجلال، والخشوع، ويحمل الإنسان إلى عالم الطهر، والبهاء، ويشعر فيه بسعة الحرية في ظلال العبودية التامة لله تعالى وحده، وقد وجد اللغويون أن ألفاظ الدعاء قد تنوعت في الحديث الشريف؛ منها: (النداء بكلمة اللهم، ويا رب، ورب، وربنا، وفعل الأمر المباشر، والجملة الخبرية) وغيرها.
ومن أمثلة أحاديث الدعاء: حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فإن قالها بعد ما يمسي فمات من ليلته دخل الجنة، وإن قالها بعد ما يصبح فمات من يومه دخل الجنة) رواه البخاري.
وحديث أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: (رب اغفر لي خطيئتي، وجهلي وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي، وعمدي، وجهلي، وهزلي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير) متفق عليه.
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى) رواه مسلم.
في هذه الأمثلة تنوعت جملة الدعاء بين الخبرية، والإنشائية، وكثر فيها الالتفات بين ضمائر التكلم، والخطاب، والغيبة، وامتازت جمله بالإيجاز والقصر، بجانب وضوح الألفاظ، وعمق المعاني.
فهذه أبرز السمات اللغوية، والخصائص الفريدة التي تميزت بها لغة الحديث النبوي الشريف من غيرها، وصدق ربنا سبحانه الذي أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: {وما أنا من المتكلفين} (ص: 86).
لذلك لم ينطق - صلى الله عليه وسلم - إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، فألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وحسن الإفهام، وقلة عدد الكلام؛ فلم تسقط له كلمة، ولا بارت له حجة.
فصلى الله وبارك وسلم على من أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا، وكان أفصح العرب بيانا، وأذلقهم لسانا.