الابتداء بالنّكرة في جُملة الحديث النبويّ

0 1526

قرر النحاة أن أصل الكلام وأحسنه أن يبتدئ بالمعرفة، لأن النكرة مجهولة، والحكم على المجهول لا يفيد، قال سيبويه: "ولو قلت: رجل ذاهب، لم يحسن حتى تعرفه بشيء؛ فتقول: راكب من بني فلان سائر. وتبيع الدار فتقول: حد منها كذا، وحد منها كذا، فأصل الابتداء للمعرفة. فلما أدخلت فيه الألف واللام وكان خبرا حسن الابتداء، وضعف الابتداء بالنكرة إلا أن يكون فيه معنى المنصوب".

والمنطق اللغوي يقتضي أن يكون المبتدأ معرفة، وأن يكون في أول جملته؛ لأنه الاسم الذي يحتاج إلى ما يكمل معناه، وما يخبر عنه؛ ومن هنا كان رأي النحاة أن المبتدأ معرفة، وأنه أصل الكلام.

والسؤال المطروح: هل ورد الابتداء بالنكرة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه خلاف أصل الكلام كما أشار النحاة؟

الجواب: نعم! بل قد ورد الابتداء بالنكرة في كلام العرب، وفي القرآن الكريم، قبل الحديث النبوي الشريف.

فلم يجد النحاة أنفسهم إلا وقد أفرطوا في الكلام عن مسوغات الابتداء بالنكرة، حتى لا يكاد يخلو منها مصنف في النحو، قد زادوا فيها ونقصوا، وقووا في ذلك وضعفوا، حتى جاء بعضهم بمسوغات لا تثبت أمام التحقيق الجاد كما رأى بعض المختصين.

قال ابن هشام: "لم يعول المتقدمون في ضابط ذلك إلا على حصول الفائدة، ورأى المتأخرون أنه ليس كل أحد يهتدي إلى مواطن الفائدة فتتبعوها، فمن مقل مخل، ومن مكثر مورد ما لا يصلح، أو معدد لأمور متداخلة".

وكانت مسوغات الابتداء بالنكرة تزيد كلما مضى الزمن وتقدم، فهي عند سيبويه أربعة، وعند الزمخشري خمسة، وعند ابن يعيش سبعة، وعند السيوطي عشرة، وعند ابن عصفور ستة عشر، وعند ابن عقيل أربعة وعشرون، بل أوصلها بعض النحاة إلى أربعين، وقد نظمها العلامة تاج الدين ابن مكتوم القيسي، فقال - كما في الأشباه والنظائر للسيوطي -:

إذا ما جعـلت الاســــــم مبتـدأ فقــل: *** بتـعريـفـه إلا مـواضـــع نـكــــــــــرا

بـها وهي إن عدت ثلاثون بعـدهـــا *** ثلاثـتـها فـاحفـظ لـكي تتـمـهــــــــــرا

ومـرجعها لاثـنين منها فـقـل: هــمـا *** خصـوص وتعـمـيــــــــم أفـاد وأثـرا

فأولها الموصوف والوصف والــذي *** عـن النفي واستفهامه قد تأخــــــــرا

كذاك اسم الاستفهام والشرط والـذي *** أضيف وما قد عم أو جــــــــا منكرا

كـقـولك ديـنـار لـــــدي لـقـائــــــــــل *** أعنـدك ديـنــــــــــار فـكن متـبصـرا

كذا كـم لإخـبـــــار ومـا ليس قـابــلا *** لأل وكذا ما كان في الحصر قد جرا

ومـا جا دعـاء أو غدا عـاملا ومــــا *** لـه سـوغ الـتـفصيــــل أن يـتـنـكـــرا

وما بعد واو الـحـال جاء وفـا الجـزا *** ولـولا وما كالـفعـل أو جــا مصـغرا

ومــا إن يتـلو في جـواب الذي نفــى *** وما كـان معـطوفا عـلى مـــــا تنكرا

وساغ ومخصوصا غدا وجواب ذي *** سـؤال بأم والـهمـــز فاخبر لتخـبـرا

ومـا قـدمت أخبــــــاره وهي جـملــة *** وما نـحـو مـا أسخـاه في القر بالقرا

كـــذا ما ولـي لام ابتـداء ومـــــا غدا *** عن الظرف والمجرور أيضا مؤخرا

ومـا كان في مـعـنى التعجب أو تـلا *** إذا لفجاة فـاحـوها تـحـو جـوهــــــرا.

وعندما تتبع بعض الباحثين اللغويين الأحاديث النبوية الشريفة في صحيحي البخاري ومسلم، وجدوا أن كثيرا منها يندرج تحت تلك المسوغات، وضربوا أمثلة على ذلك؛ منها:

الأول: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) متفق عليه.
فمسوغ الابتداء بالنكرة في الحديث هنا أن النكرة موصوفة بالجار والمجرور، وهي - أيضا - مقترنة بلام الابتداء.

الثاني: حديث عامر الشعبي أن رجلا قال له: يا أبا عمرو، إنا نتحدث عندنا: أن الرجل إذا أعتق أم ولده ثم تزوجها كان كالراكب بدنته، فقال عامر: حدثني أبو بردة، عن أبيه، قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه. ورجل كانت عنده أمة يطؤها، فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران) متفق عليه.
فجاء المبتدأ نكرة، والخبر جملة اسمية، والنكرة هنا موصوفة بما سماه النحاة (الوصف التقديري)، وهو الذي يكون محذوفا من الكلام، لكنه على تقدير ذكره في الكلام، وتقدير الكلام هنا: ثلاثة رجال، أو رجال ثلاثة.

الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه رجل) ثم قرأ هذه الآية: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} متفق عليه.
ففي هذا الحديث الشريف جاء المبتدأ نكرة، والخبر جملة فعلية (فعل مضارع).

الرابع: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) متفق عليه.
ففي هذا المثال جاء المبتدأ نكرة، والخبر جملة شرطية، وجاز الابتداء بالنكرة في الحديث الشريف لأن التنوين عوض المضاف إليه، والتقدير: ثلاث خصال.

والله - تعالى - أعلى وأعز وأعلم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة