- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:لغويات حديثية
يرى بعض الباحثين أن علم (النحو) قد شهد تداخلا معرفيا مع العلوم الأخرى، بل يشيرون إلى أنه من أبرز العلوم التي شهدت هذا التداخل؛ ذلك أنه يعد حالة معرفية يتوصل منها إلى تنظيم الكلام على وفق قواعد وأصول منهجية، استخلصت من استقراء كلام العرب، وطريقتهم في الخطاب.
ويقوم التداخل المعرفي بين العلوم على أسس ثلاثة - في رأي الأستاذ الدكتور بان مهدي - وهي: التأثر والتأثير، والتشابه، والتناسب والتلازم.
وقد وجد الباحثون أن هذا التأثير لم يكن من تداخل العلوم فقط، وإنما لأن المؤسس الأول لعلم النحو، أو (إمام النحاة) - كما يترجم له - قد درس الحديث أولا قبل أن يلج ميدان علم النحو؛ ويقصدون: عمرو بن عثمان بن قنبر - ويروى في ضبطه: قنبر - أبا بشر، مولى بني الحارث بن كعب - وقيل: مولى آل الربيع بن زياد - الملقب بـ(سيبويه) - أغفلت كتب التراجم السنة التي ولد فيها، واختلفوا كثيرا في سنة وفاته - فيرى المختصون الذين عكفوا على كتاب سيبويه أن شخصيته قد استوت على وفق مناهج المحدثين، وأشربت الأسس الحديثية في منظومته الفكرية، فترآت آثارها جلية في المنهج الذي اختطه لنفسه في التأليف اللغوي متمثلا في كتابه.
ولا غرو.. فالإنسان بطبيعته يسخر ما يمتلكه من تراكم معرفي لتثبيت أفكاره، وهذا قد ظهر واضحا على سيبويه الذي امتلك هذا التراكم الخاص بمصطلحات أهل الحديث لينقلها إلى علم النحو.
ولعل من المناسب - في هذا السياق - ذكر القصة التي أدت إلى أن يتجه سيبويه إلى دراسة علوم اللغة حتى وصل إلى مكانته.
كان الحديث والفقه - في عصور خلت - من أول ما يدرس العلماء، وهذا ما جعل سيبويه يتوجه إلى دراستهما، فكان يستملي الحديث على حماد بن سلمة، وبينما هو يستملي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من أصحابي إلا من لو شئت أخذت عليه ليس أبا الدرداء)؛ فقال سيبويه: (ليس أبو الدرداء) - وظنه اسم ليس - فقال حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، وإنما ليس ها هنا استثناء، فقال: لا جرم، سأطلب علما لا تلحنني فيه أبدا! فلزم الخليل حتى برع في اللغة.
وفي خبر آخر يرويه حماد بن سلمة أيضا، أنه جاء إليه سيبويه مع قوم يكتبون شيئا من الحديث، قال حماد: فكان فيما أمليت ذكر الصفا؛ فقلت: "صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا"، فكان هو الذي يستملي؛ فقال: "صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفاء"، فقلت: يا فارسي! لا تقل: الصفاء؛ لأن الصفاء مقصور، فلما فرغ من مجلسه كسر القلم، وقال: "لا أكتب شيئا حتى أحكم العربية".
فيبدو أن أثر هاتين الحادثتين - كما يرى بعض الباحثين - كان دافعا جعل سيبويه يقدم على تعلم علوم العربية، والنبوغ فيها، وما صدر عن حماد كان السبب الرئيس الذي صنع سيبويه النحوي.
وقد حمل سيبويه مع تلك الرغبة الشديدة لتعلم النحو أدوات اختزلها من دراسته لعلم الحديث النبوي الشريف، وطفقت تلوح في شخصيته العلمية، وتبدو آثارها جلية في أسلوب بحثه، والمنهج الذي اتبعه لمعالجة القضايا اللغوية في كتابه، فصار له طابعه الخاص.
وإن الناظر بعين الفاحص في طريقة سيبويه ومنهجه، يرى بوضوح عرضه للآراء، ومناقشتها والحكم عليها، وتحريه الدقة، فلا ينقل إلا ممن يحتج بلغته، ويتلمس الباحث في كتابات سيبويه - في مواطن عدة - ملامح المنهج الحديثي واضحة المعالم، وكل ما تشبعت روحه من (آداب المحدثين) من الإخلاص، وتصحيح النية، والملازمة، والدأب، وغيرها، بجانب (طرائق التحمل)، و(التقسيم الوصفي للحديث)، كل ذلك كانت أصداؤه واضحة في أروقة (كتاب) سيبويه بعد أن نقل مصطلحات علم الحديث لتدخل ميدان النحو؛ فوسم بعض التراكيب النحوية، واللغوية بـ(الحسن)، و(الضعيف)، و(الصحيح)، و(الشذوذ) كما صنع المحدثون؛ ومن أمثلة ذلك:
قوله: "والرفع أجود وأكثر في (ما أنت وزيد) والجر في قولك: (ما شأن عبد الله وزيد) أحسن وأجود".
وقوله: "فهذا ضعيف، والوجه الأكثر الأعرف النصب".
وقوله: "... فهذا إن جعلته استفهاما فإعرابه الرفع، وهو كلام صحيح".
وقوله: "هذا باب ما كان شاذا مما خففوا على ألسنتهم، وليس بمطرد".
فهذه المصطلحات - حسن، وضعيف، وصحيح، وشاذ - وغيرها قد استخدمها سيبويه بكثرة في كتابه.
وتجلت فكرة (ما قيد بثقة) المنحدرة من (مناهج المحدثين)، في منهج سيبويه في كتابه، إذ تطالعنا في مواطن عدة؛ ومنها قوله: "سمعنا بعض العرب الموثوق به"، وقوله: "حدثنا من يوثق به".
ونجد بوضوح بروز مسألة (ما قيد ببلد معين من الحديث) بعدها حكما يستعمله المحدثون قد ألقت بظلالها على التقييم الذي اتبعه سيبويه للتراكيب اللغوية، والحكم عليها متجسدا في أكثر من موضع من كتابه، وذلك نحو قوله: "هذا باب ما أجري مجرى (ليس) في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز، ثم يصير إلى أصله".
وقوله أيضا: "في قوله تعالى: {ما هذا بشرا} في لغة أهل الحجاز، وبنو تميم يرفعونها، إلا من درى كيف هي في المصحف"، وهكذا.
وبعد أن بدا واضحا أثر مناهج المحدثين في الأسلوب الذي اختطه سيبويه في منهجه اللغوي، يمكننا القول: إن دراسة سيبويه للحديث النبوي الشريف، واطلاعه على مناهج المحدثين قبل إقباله على علوم اللغة، قد أثر في بناء شخصيته، وتحديد ملامح منهجه اللغوي الذي تفرد به، وتميز به من غيره، وقد بدا واضحا في أكثر من موضع من كتابه ملامح هذا التأثر؛ سواء أكان باقتباس المصطلحات، أم باتباع الآداب التي التزم بها المحدثون، وبالله التوفيق.