- اسم الكاتب:علي جابر المشنوي
- التصنيف:ثقافة و فكر
يفتح الباب للثور الهائج لينطلق غاضبا مسرعا بكل قوة إلى الساحة متجها إلى المصارع مباشرة لينتقم منه ، الثور كبير ، عظيم البنية ، هائج وغاضب ، وفي مواجهته مصارع صغير لن يستطيع مواجهة الثور ولو للحظة ، ولكنه بدلا عن المواجهة التي سيخسرها حتما ؛ يستخدم المنديل الأحمر ، يلوح المصارع بمنديله نحو اليمين ونحو اليسار ، يظهر مصارع آخر بمنديل آخر يلوح به أيضا ، وهكذا..
يتشتت الثور عن هدفه الرئيسي - المصارع – إلى مطاردة المناديل الحمراء الملوح بها ، وهكذا يستغل المصارع أو المصارعون حالة التشتت هذه التي حتما تضعف الثور ، ويبدأون في غرس سهامهم واحدا وراء الثاني في رقبة الثور الهائج الذي أدركه الإعياء لطول مطاردته للمناديل ، ثم لا يلبث الثور أن يسقط تماما ، وهنا يتمكن المصارع الصغير من هدفه عندما يجد الثور الهائج الكبير الذي ليس له به طاقة ، يجده أمامه ساقطا بلا حراك ، فيجهز عليه ، أمام التصفيق والتصفير من الحضور!
هذه هي قصة مصارعة الثيران ، وهذه القصة بالضبط تتكرر كثيرا في حياة الأمم والشعوب ، وبما أن هذه التجربة ناجحة ، فإنها أصبحت خيارا جيدا يستخدمه أهل الأهواء والإفساد في تمرير مشاريعهم ، ففي سبيل إضعاف غضب الأمم والمجتمعات ، وفي سبيل تشتيت الجهد المجتمعي الرافض للفساد ، يستحضر المفسد طريقة المصارع والمنديل الأحمر، فيسوق لقضية هنا ، ويعلن عن قرار هناك ، وينشر أكذوبة هنا ، ويأمر بعمل إيجابي هناك وهكذا ليلتهي ذلك المجتمع أو تلك الأمة عن القضية الرئيسية التي أحفظتها وأغضبتها ، وتتشتت الجهود بين هذا الخبر وذاك وهذه وتلك وهكذا إلى أن تضيع البوصلة تماما ، وينتصر المفسد ، ويعود ذلك المجتمع بخسائر كثيرة ، فلا هو ربح معركته التي حارب من أجلها ، ولا هو حافظ على نشاطه واستخدمه في مشاريع أخرى! بل عاد منهكا مهزوما ، وربما استغفله المفسد أكثر من ذلك فرمى له بقطعة صغيرة من الحلوى يلهو ويتمتع بها ، تلهيه عن نفسه وعن ما يصنع حوله ، ويلوح بها أمام أعين الشامتين أن انظروا : لقد ظفرت بهذه!
ولهذا فإن المجتمع الناجح هو ذلك المجتمع الذي يعرف أولوياته جيدا وإذا سار في طريق نحو مطلب ما لم تلهيه عن مطلبه بنيات الطريق ، ولا الأحداث المفتعلة ، ولا المناديل الحمراء الملوح بها هنا وهناك ، بل يسير في مهمته الرئيسية وهدفه الأساسي ، وكلما زادت الملهيات والمناديل كلما زاد تركيزه أكثر على هدفه الأول لأنه يعلم أن ازدياد المناديل الحمراء ، دليل قاطع على صحة طريقه وأهمية هدفه ومبتغاه.
هناك سبب مهم يقف خلف مثل هذا التخبط والجري خلف المناديل ، وهذا السبب هو غياب المشروع!
فماذا يعني غياب المشروع؟
معناه أن تظل ردة فعل للحدث الجزئي ، أن تبقى مستعدا متحفزا متوترا بسبب وبلا سبب ، ترتقب خطوات المفسدين ثم تكون ردة فعل لها ، أن تأتي في أعقاب الآخرين ، أن تكون كالأعرابي الذي غفل عن حفظ إبله ، فبيته اللصوص وسرقوا إبله وذهبوا بها ، فلم يملك إلا أن صعد إلى أكمة ثم أوسعهم سبا وشتما ! فلما أسفر النهار سأله قومه: مالذي حصل ؟ فقال مسرورأ متوهما النصر : "أوسعتهم شتما وساروا بالإبل!"
وعندما يحضر المشروع ، وتتضح الفكرة ، يذهب كل هذا ، ويصبح الآخرون ردة فعل وأنت في المقدمة ، لأنك تبني ، لأنك تخطو ، لأنك تزرع ، لأنك ترى بناءك يكبر أمامك في طريقه إلى الصورة الكاملة المرسومة في ذهنك ، لأنك ترى بذرتك تنمو وتستوي ، تنشر جذورها في باطن الأرض وتبعث أغصانها عاليا ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، عندما تكون هنا ، فأنت لا تهتم كثيرا لما يفعله الآخرون ، لا تنشغل كثيرا بحجم الدمار من حولك ، ليس لديك الوقت لأن يلهو الآخر بمنديله أمام عينيك ، لأنك ببساطة مشغول بزرعك ، ببنائك ، عيناك تنظر فقط إلى غاية واحدة وهدف واحد ، وتغض طرفها عما سواه!
وأصحاب المشاريع - سواء مشاريع مؤسساتيه أو فردية - هم الأكثر هدوء ونفعا وتعاملا مع الأزمات ، تحل الويلات فيكونون أول من ينفض عن نفسه غبارها ، بينما من لا يملك مشروعا ، يغرق عند أول موجه ويبقى يقاومها ويتتبعها ويشغل نفسه بها وربما ذهبت وأتت أخرى أقوى منها وأشد وهو لا يزال يلعن الأولى التي أتت وولت ، فلا يصرفه عما هو فيه إلا هدير الثانية ، ثم لا تلبث أن تلقي به بعيدا ، وهكذا يضيع بين موجة وأخرى ، ولو صنع له زورقا لكان قادرا على اعتلاء ألف موجه!
ولهذا فإن أكثر الناس نواحا وتشاؤما مع أي حدث هم الأقل نتاجا في الغالب فرديا ومؤسساتيا ، وذلك لأنه يتألم مما يفعله الفاسدون ، وزيادة ألمه عمن سواه ليس لأنه أغير أو أكثر هما منهم ، كلا ، ولكن لأنه لا يعيش مشروعا يعزي به نفسه ويرى فيه نتاجه ، بينما غيره – ممن لديه مشروع - يتألم أيضا ويحزنه تمكن الفاسدين وأهل الأهواء ، ولكن ألمه لا يلبث أن يزول أو يخف لأن لديه ما يستحق أن يبذل فيه طاقته ، أو هو على الأقل راض عن نفسه عندما يرى بعض زرعه أمام عينيه مورقا يانعا.
الصالحون كلهم يتألمون عند رؤية المنكر وارتفاع صوت الباطل ، لكن هناك من يبعثه الألم ويحييه ويجعله يبذل الطاقة في مشروعه الذي بين يديه ، وهناك من يزيده الألم ضعفا فيكتفي بالويل والثبور وكأن القيامة غدا ونسي وصية نبيه صلى الله عليه وسلم : إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل!
أيها المصلح : ابدأ غرسك من اليوم.