- اسم الكاتب:د. سلمان فهد العودة
- التصنيف:ثقافة و فكر
يروى أن الملائكة حين أخبرهم ربهم بخلق آدم قالوا: ربنا، وما يكون حال الخليفة؟
قال الله: تكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضا. فاستغربوا وقالوا متسائلين: لم خلقته إذا؟
عندما عجزوا عما قدر عليه آدم من المعرفة والملكات الخاصة والقدرة على فهم الأشياء الكونية وتسميتها، وأدركوا فضله بالإرادة اعترفوا وقالوا: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم).
وسارعوا بالسجود لآدم عندما أمرهم الله بذلك.
وكان هذا إيذانا بتفضيل الأنبياء وصالحي البشر على الملائكة، ورسما للعلاقة القادمة القائمة على تولي الملائكة أمر الإنسان: الحفظ، المطر، الوحي، النبات، الحمل، الولادة، الموت، التسجيل والرقابة.
الملائكة المخلوق الوفي للإنسان الرحيم به، يحبه ويحب الخير له ويحفظه في يقظته ومنامه بإذن الله.
وجودهم يوحي باللطف والرحمة، وأن وراء العالم المادي المحسوس عالما غيبيا آخر له شأن في التدبير والتصريف وفق إرادة الله.
من الأنانية والغرور أن يختزل الإنسان العالم في محيطه الضيق.
"الله" من علم الغيب، فمن آمن بالله فما دونه أيسر.
ثم عوالم هائلة غيبية، وفيها حشد وحراك ضخم، وأحداث وأنظمة يؤمن البشر جميعا بقدر منها يزيد أو ينقص.
الملائكة مبرمجون حسب التكليف الإلهي، وليس من مهمتهم توليد المعرفة وتطويرها واستخدامها بالشكل الذي تميز به آدم؛ لأنهم خلقوا من نور بحت، فهم مخلوقات واضحة غير معقدة، بخلاف الإنسان فهو الكائن المعقد المكون من نقائض الطين والروح، والمزود بالقدرات العقلية الخاصة.
بهذا كان فضل العالم على العابد.
ولذا استغربوا خلقه ابتداء، وتحدثوا عما يعرفون من التسبيح والتنزيه والتقديس.
وربما فوجئوا بأكله من الشجرة، وكأنها كانت صدمة.
بعض الصالحين قد لا يستوعب القدر، أو لا يستوعب الخطأ البشري من الآخرين؛ لأنه يعيش في عالم روحاني سام.
قال سبحانه: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا).
لو استقرت الملائكة في الأرض وسكنوها وشموا ترابها وغبارها لاعتراهم ما يعتري آدم، واحتاجوا إلى الرسل من السماء لإصلاحهم وتهذيبهم وتأهيل روحانيتهم مرة أخرى.
قصة هاروت وماروت وكيف فتنوا بالمرأة- حسب الرواية الإسرائيلية المشهورة- توحي بذلك.
جميع الشرائع أقرت بوجود الملائكة وأعمالهم، وسمت بعض مشاهيرهم، كجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، (ولم يثبت أن اسمه: عزرائيل) عليهم السلام.
وفي القرآن أنهم ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، لكن لا نعرف كنهها، وليست أجنحة مادية من الريش كأجنحة الطيور، ولو كانت كذلك لرآها الناس، ولكنها أجنحة من نور، وأصحابها خلقوا من نور.
جمال خلقتهم معلوم بالفطرة ولذا قالت النسوة حين رأين جمال يوسف: (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم)، وهو نقيض ما في الفطر من استقباح خلقة الشياطين: (طلعها كأنه رءوس الشياطين).
الملك هو من نفخ الروح فينا حين كنا أجنة في بطون أمهاتنا، وهذا سبب كاف لحبهم والقرب منهم.
يصحبون الإنسان ويقتربون منه حال الطاعة وحال المعصية، ويكتبون، ويحفظونه من الأعراض، حتى يأتي القدر فيخلون بينه وبينه: (يحفظونه من أمر الله)، ولذا قد يسلم الإنسان وهو مظنة العطب، وما قصة الطفل الذي نجا بعدما سقط تحت القطار، أو قصة الطفل الذي كان في أعلى نوافذ الفندق يذهب ويجيء ويلعب حتى اختطفته يد حانية فنجا، إلا نماذج للسالم المعزول بحفظ الله ولطفه.
منهم الحفظة والكتبة: (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين)، وهم يهتمون بلغة الإنسان وما ينطق: ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ).
حين تهم بالنطق وتستشعر أن ملكين على شدقيك، سيكون للكلمة قيمة وحساب.
عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة" (أخرجه أحمد والترمذي)
وكان علقمة بن وقاص الليثي يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث.
ليس اسم الملكين: الرقيب والعتيد، بل هو وصفهما؛ أي: مراقبان حاضران لا يغيبان، ولا يغفلان، ومهيآن لتسجيل كل شيء.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم". ثم قرأ: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء...) (أخرجه الترمذي والبيهقي)
الإلهام الحسن يكون من الملك، ويساعد الإنسان في المواقف الصعبة.
السكينة الروحية وانشراح الصدر من الملك.
الرؤيا الصالحة من الملك.
الخواطر الإيجابية المشجعة على التفاؤل وتوقع الخير والنجاح والسعي في إسعاد الآخرين من الملك.
الانفساح والانشراح والنور والمحبة والإيثار من لمة الملك.
غرس الأمل بالشفاء والعافية عند المريض من الملك.
مساندة الإنسان عند الصعاب من الملك، ومن أشدها حالة النزع والفراق: ( تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ).
والملائكة هنا تخاطب بني آدم، لكن سمعها لا يكون بالأذن الحسية، بل بيقظة الروح.
تثبيت الإنسان: ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ).
الملائكة تحب المؤمن: "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض".
وتبادر الملائكة الإنسان في بدايات الأشياء في أول عمره، وفي أول صحوه من النوم، وتقول له: افتح بخير. وتشجعه على ذكر الله في تقلباته من قيام وقعود ودخول وخروج وأكل وشرب وسفر..
وتبادره عندما يخرج من منزله، ليكون مسعاه خيرا، وتكون رايته بيد ملك.
الملائكة تحب المتطهرين وأصحاب الألسنة العفيفة، وتنفر من النجاسات الحسية والمعنوية.
وتحب الستر وتكره التعري لغير حاجة، عن علي رضي الله عنه: من كشف عورته أعرض عنه الملك (أخرجه ابن أبي شيبة). ولهذا سعى الشيطان إلى ظهور سوءة آدم وحواء.
تحب المتواضعين وتنفر من المتكبرين، وهيهات أن ينسى آدم وحواء أصلهما الترابي وهما حديثا عهد به.
تنفر الملائكة من الصحبة الفاسدة وأصحاب النوايا الشريرة.
تكثر مشاهدتنا للملائكة في الأساطير والكتب والمواقع الغربية وتشبيهها بالإناث، ويعتاد رؤيتها الشباب في الدراما، وفي محركات البحث كـ(Google) وتبدو تصاوير متنوعة يزعم رساموها أنها تحكي صورة الملائكة، وهم غيب لا يملك الإنسان أن يتخيلهم على الحقيقة؛ لأن مخياله مطبوع على الأشياء المادية التي لم ير غيرها ، والقرآن يدحض هذه الصورة: ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون ).
قليلا ما أستشعر قرب الملائكة مني، ويحدث ذلك عندما أحس بالافتقار والخوف والضعف.
هل أشعر في خلوتي بالحياء منهم كما أشعر لو أن صديقا أو قريبا فاجأني دون توقع؟
للأسف: كلا.
هل أشعر بالاحترام والتقدير لشعورهم تجاهي وعنايتهم بحاضري ومستقبلي؟ ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ).
هل سعيت في توفير الجو المناسب لهم ليقتربوا مني؟
عندما آوي إلى فراشي هل أندمج في أدعية وأذكار تجعل الملك يتقلب معي في فراشي ويلهمني الرؤيا الصالحة؟
في السجن والخلوة يطول ابتهال الإنسان طلبا لفرج، وتعبيرا عن العجز، حتى يستشعر قرب الملائكة، وربما خطر في باله أنهم صفوف خلفه وهو في التراويح، أو هم أن يناشدهم مشاركته في الدعاء والتأمين عليه، وكيف لا وهم يؤمنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، ويقولون: ولك بمثل؟ كما في (صحيح مسلم) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وكيف لا وهم يستغفرون لمن في الأرض؟
كثيرون يتوهمون رؤية الجن والشياطين، ولكن من النادر أن يحدثك أحد عن مشاهدة ملك.. لماذا؟
رؤية الملائكة ممكنة، حيث لا حجاب ولا أبواب ولا جدران من الإسمنت أو الحديد أو الزجاج يمنعهم، ويقع بذلك التثبيت في حالة ضعف أو قلق، وليست مجالا للادعاء والفخر، فمن يراهم غالبا لا يجد ما يدعو للحديث عن ذلك!
وادعاء رؤية الملائكة أو وقوفهم مع فصيل معين في معركة ما أخبار تلتبس فيها الحقيقة بالوهم، وعلينا الوقوف فيها على الأخبار اليقينية فحسب.
الخيال السلبي والتربية بالخوف وقصص الجن والعفاريت قبل النوم تطبع حياتنا في الطفولة وإلى الموت..
وفي الخيال العلمي الحديث تطورت قصص ما يسمونه بالعوالم الموازية، وهي كائنات مختلفة قريبة مما يؤمن به المؤمنون بالملائكة والجن والشياطين، حيث كل عالم له مداخل محددة وضيقة، وكل عالم له معرفة بعوالم معينة، بينما عالم البشر في مربعات خاصة لا يرى البشر فيها إلا البشر أو الكائنات المشاهدة في عالمهم، ولا يستطيع أحد رؤية تلك العوالم إلا بتجاوز الصفائح المعنوية المخلوقة للتمييز بين تلك العوالم وعدم التداخل بينها.
وعلى أية حال، ففكرة العوالم الموازية فيها شيء من الحق في إثبات أن الجن يروننا من حيث لا نراهم كما ذكر القرآن، وأننا لا نرى تلك العوالم الأخرى مع وجودها.. وربما عوالم لا نعرفها ( ويخلق ما لا تعلمون ).