- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:لغويات حديثية
لم يهمل النحاة الفعل بوصفه ركن الجملة الفعلية، بل أولوه جل الاهتمام والعناية في مباحثهم حتى أثر ذلك في الاهتمام بالجملة الفعلية نفسها، فالفعل عندهم يأتي في المرتبة الثانية في تقسيم الكلمة العربية، وهذا ما ذكره سيبويه في كتابه، وهو عنده يدل على الحدث والزمان؛ إذ قال: "أما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع".
وقد اطردت دلالة الفعل على الحدث والزمان عند النحاة الذين خلفوا سيبويه، وللجملة الفعلية المساحة الواسعة في الاستعمال اللغوي العربي، بل في سائر اللغات الجزرية (السامية).
وحينما قام بعض الباحثين بدراسة الأحاديث النبوية الواردة في (صحيح البخاري) على مائدة البحث اللغوي، وجدوا أن الجملة الفعلية الخبرية المثبتة في الأحاديث المرفوعة قد وردت في سبعة وخمسين وثلاثمئة وألفي موضع.
ووجدوا أن الجملة الفعلية التي لا محل لها من الإعراب في الأحاديث المرفوعة في (صحيح البخاري) قد بلغت أربعة وسبعين وأربعمئة وألف، وقاموا بدراسة هذه النصوص من حيث طريقة النظم والإعراب وفق الدلالة الزمنية للأفعال والبناء للمعلوم، والبناء للمجهول، والتمام والنقصان، والتقديم والتأخير، ومن ثم الوظيفة النحوية للجملة.
وقد مر معنا في مقال سابق أن اللغويين بعد دراسة الجملة الفعلية، وتتبعها على وفق ما قرره النحاة، وجدوا أن الجملة الابتدائية -التي ضمن الجملة الفعلية الخبرية المثبتة- قد وردت في الأحاديث المرفوعة في الصحيح في اثنين وسبعين وثلاثمئة موضع، وذكرنا منها: الجملة ذات الفعل الماضي التام المبني للمعلوم، والجملة ذات الفعل الماضي التام المبني للمجهول، وضربوا لها الأمثلة من الأحاديث النبوية المرفوعة، وخلصوا إلى أن الجملة الفعلية الخبرية المثبتة الابتدائية التي فعلها ماض مبني للمجهول قد وردت في اثنين وأربعين موضعا في (صحيح البخاري)، ومن ضمن تقسيمات اللغويين للجملة الفعلية التي لا محل لها من الإعراب في الأحاديث المرفوعة في (صحيح البخاري):
ثالثا: الجملة ذات الفعل المضارع التام المبني للمعلوم: ومن أمثلتها من الأحاديث النبوية في (صحيح البخاري) قوله صلى الله عليه وسلم:
(تنام عيني ولا ينام قلبي)، (تكفونا المؤونة)، (يتعاقبون فيكم، ملائكة في الليل وملائكة في النهار)، (تكثرن اللعن)، (تجدون الناس معادن).
فالجمل السابقة جمل ابتدائية لا محل لها من الإعراب، وقد جاءت أفعالها بصيغة المضارع، فهي: (تنام، تكفونا، يتعاقبون، تكثرن، تجدون)، وفاعل كل منها هو: (عيني، الضمير واو الجماعة، الضمير واو الجماعة، الضمير نون النسوة، الضمير واو الجماعة على التوالي.
وبما أن الجمل الابتدائية تأتى في بداية الكلام فلا شيء يدخل عليها، جاءت أفعالها المضارعة كلها مرفوعة؛ لأن الفعل المضارع إذا جرد من الناصب والجازم رفع.
وفي الجمل السابقة ظاهرتان نحويتان لفتتا انتباه النحاة، أما الظاهرة الأولى فهي الجملة الثانية، إذ (حذف نون) رفع الفعل لغير ناصب ولا جازم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (تكفونا المؤونة).
وقد علل النحاة (حذف النون) في مثل هذا الموضع أنه طلب للخفة، حتى إن ابن مالك عد ذلك ثابتا مطردا في كلام العرب نثره ونظمه، وعلل الحذف بكراهية تفضيل العلامة النائبة على المنوب عنها، إذ إن (النون) نابت عن (الضمة) التي هي حركة الرفع الأصلية، وعلل بعضهم ذلك بكراهية توالي المثلين، وهما (نون الرفع)، و(نون الضمير نا)، وهو تعليل لا يتعدى طلب الخفة، وعليه فإن الحذف جائز إلا أن يلتبس المعنى.
وأما الظاهرة الثانية فهي قوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم، ملائكة في الليل وملائكة في النهار).
ويبدو أن هذه الظاهرة أقل وطئا من شقيقتها، إذ تلقاها النحاة بصدر رحب، وبوبوا لها في كتبهم، وسماها سيبويه (لغة أكلوني البراغيث). وضابط هذه اللغة هو وقوع فاعلين لفعل واحد، فالواو في لفظة (يتعاقبون) فاعل، وكذلك (ملائكة)، ورافعهما هو الفعل (يتعاقبون).
وعلل سيبويه هذه الظاهرة بأن ضمير الرفع شبه بـ(التاء) التي تلتزم الفعل في نحو: (قالت فلانة)، واتفق معظم النحاة على أنها لغة، وفي الحقيقة أن توجيهها على أنها استعمال فصيح هو المناسب لهذه الظاهرة، ولا سيما أنها وردت في أفصح خطاب في ضمن قوله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا}.
وعليه فوجه الإعراب المختار لها هو ما ذهب إليه سيبويه من قبل كون (الواو) حرفا دالا على الجمع، والفاعل هو (ملائكة)، وإلى مثله ذهب ابن هشام في (أوضحه).
ومن ملاحظات اللغويين على تلك الجمل الخبرية الابتدائية أن أفعالها جاءت بعضها لازمة، وبعضها متعدية، ففعلا الأولى والثالثة لازمان، وفعلا الثانية والرابعة متعديان إلى مفعول واحد، على حين جاء فعل الخامسة متعديا إلى مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر.
وقد وردت الجملة الفعلية الخبرية الابتدائية التي فعلها مضارع تام مبني للمعلوم في (تسعة عشر ومئة) موضع.
رابعا: الجملة ذات الفعل المضارع التام المبني للمجهول: ومن أمثلتها في الأحاديث النبوية في (صحيح البخاري) قوله عليه الصلاة والسلام:
(يؤتى بالموت)، (يلقى في النار)، (يقبض العلم)، (يعذبان، وما يعذبان في كبير).
ففي الأمثلة الماضية جمل خبرية ابتدائية، لا محل لها من الإعراب، جاءت أفعالها مضارعة مبنية للمجهول، وقد جاءت صيغها على وفق ما يتطلبه البناء للمجهول، وهو ضم الحرف الأول وفتح الحرف ما قبل الآخر، وهي: (يؤتى، يلقى، يقبض، يعذبان) على التوالي، والنائب عن الفاعل هو: (بالموت، في النار، العلم، ألف الاثنين) على التوالي.
إن استعمال صيغة المبني للمجهول تتطلبها ظروف الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم في أخباره هذه يذكر أمورا غيبية، فناسب حذف الفاعل هنا للدلالة الواضحة عليه، وهو رب العزة جل وعلا.
وقد وردت الجملة الفعلية الخبرية الابتدائية ذات الفعل المضارع التام المبني للمجهول في أربعة عشر موضعا.
خامسا: الجملة ذات الفعل الماضي الناقص: ومن أمثلتها في الأحاديث النبوية الصحيحة:
(أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر)، (كنت خلفت في البيت تبرا)، (كان تاجر يداين الناس)، (كان برجل جراح)، (كان الله ولم يكن شيء قبله).
فهذه جمل ابتدائية لا محل لها من الإعراب، وقد جاءت أفعال هذه الجمل ناقصة، أي (كان وأخواتها) ويرجع النحاة نقصان هذه الأفعال إلى أنها لا تكون جملة مفيدة إلا بمرفوع ومنصوب، أي أنها لا تكتفي بمرفوعها، فإن اكتفت فهي عندئذ أفعال تامة، وذهب بعض النحاة إلى أنها تجردت من الحدث ودلت على الزمان فقط فهي ناقصة عن الأفعال التامة التي تدل على حدث مرتبط بزمن.
وذهب الدكتور إبراهيم السامرائي إلى أن النحاة قد جانبوا الصواب في تعليلهم الأول، وذلك أنهم عدوها ناقصة لأنها لا تكتفي بمرفوعها بل تحتاج إلى منصوب، وعلى رأيهم هذا يجب أن تكون الأفعال المتعدية بنفسها ناقصة أيضا، فالفعل (ضرب) -مثلا- لا يكتفي بمرفوعه بل يحتاج إلى منصوب أيضا، بل الفعل (كسا) يكون النقص فيه أصلا؛ لأنه لا يكتفي بمنصوب واحد بل يحتاج إلى اثنين.
أما تعليل النحاة الثاني في كونها خالية من الحدث، فقد أبطله الرضي إذ قال: "وما قال بعضهم من أنها سميت ناقصة لأنها تدل على الزمان دون المصدر -أي الحدث- ليس بشيء، لأن (كان) في نحو (كان زيد قائما) يدل على الكون الذي هو الحصول المطلق، وخبره يدل على الكون المخصوص، وهو كون القيام أي حصوله، فجيء أولا بلفظ دال على حصول ما ثم عين بالخبر ذلك الحاصل…، فكان يدل على حصول حدث مطلق تقييده في خبره…. ومثله إخوانه".
ولو عدنا إلى الجمل الابتدائية السابقة التي وردت في الأمثلة النبوية لوجدنا أن الأفعال الناقصة التي وردت فيها هي (كان، وأصبح) إذ لم ترد جملة خبرية ابتدائية مصدرة بغيرهما في (صحيح البخاري).
أما (كان) فقد وردت في أربع جمل وافقت فيها أقوال النحاة الاستعمال النبوي الشريف، وقد وردت على نوعين (ناسخة ناقصة، وتامة غير ناسخة)، أما الناسخة فقد جاءت لتدل على معنى حصل وانقطع فقط، إذ لم ترد في الحديث النبوي الشريف بمعنى الدوام؛ كقوله تعالى: {وكان الله سميعا عليما}، ولا بمعنى (صار)، وهذا ما قرره النحاة في أحوالها، وقد ورد اسم (كان) على نحو (تاء الفاعل، تاجر، وجراح) على التوالي، وخبرها جاء في الجملة الثانية، والثالثة جملة فعلية، وجاء في الجملة الرابعة محذوفا متعلقا به الجار والمجرور، مقدما على اسمها إذ يتوسع في الجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما، وقد اختلف النحاة في تقدير المحذوف، فمنهم من يقدره اسما، ومنهم يقدره فعلا، أما (كان) التامة غير الناسخة فقد جاءت في الجملة الأخيرة، وهي بمعنى الوجود الأزلي، الدال على القدم، وفاعلها هو لفظ الجلالة (الله).
أما الفعل (أصبح) فقد جاء في الجملة الأولى، وقد أفاد وقوع المعنى في الصباح فقط، مع أنه يرد بمعنى (صار) و(كان) من غير قصد إلى وقت مخصوص واسمه (مؤمن)، وقد تأخر وتقدم عليه الجار والمجرور المتعلقان بمحذوف خبر (أصبح)، وقد علم أن هذه الجمل ابتدائية لا محل لها من الإعراب، وقد وردت في تسعة عشر موضعا.