الغربة الثقافية

0 823

امتشاقي للقلم وممارسة دور الكاتب ،والكتابة الصحفية لم يكن مرتبا ،أو محسوبا لا من قبلي ولا من قبل عائلتي التي كان مبتغاها أن ترمقني مع الأقران حاملا لمحفظة وسائرا في خط غير منكسر صوب الجامعة فحلم العائلة كان ضمن مجال معرف ودقيق أن لا أضيع بين متاهات البطالة مع جحافل البطالين الذين لفظتهم المدرسة فأصبحوا صعاليك ،وبين طيش الطفولة المغرورة بما تملك من قدرة عقلية على الاستيعاب فلا يصدنها صاد عما في بطون الكراسات.

وكان لي ذلك أن تفوقت على الأقران وتملكت جانبا مهما من سنوات النجاح أو هكذا كانت تبدو لي وعلى طول نجاحاتي لم أكن أدري ماذا أريد سوى أن أنجح وكفى كانت هوايتي أن أقرض الشعر، وكانت هواية من محض الصدفة ربما انطلقت معي لما أردت أن أكون شاعرا غنائيا اقتداء بشعراء الغناء لعبد الحليم حافظ الذي كنت أحفظ جميع اغانيه إلا ما لم تلتقطه أذني وسمعتها كلها لما زرت القاهرة فيما بعد ونزلت ضيفا على شركته صوت الفن.
لقد كان الشعر هاجسي وأنا لم أتخط عتبة المدرسة الابتدائية وكل معلم يعلم بي إلا ويقترب مني ويربت على كتفي طالبا مني المواصلة حتى لقبت بالشاعر لكل مرحلة أصلها وللمؤسسة التي ألجها.

وكما تحكمت في ناصية الشعر الفصيح قدرت على التأقلم مع الدارج الغنائي وكنت أنظر إلى هذه الازدواجية من أن أحمد رامي تمكن من ذلك، وذاع صيته.
وكدت أن أنساق مع شلة من الغنائيين ذكورا وإناثا هم اليوم مطربين لهم مكانتهم في المجتمع الغنائي وأحمد الله على أنني لم أوفق وانقلبت الهواية الشعرية إلى صحوة فكر، ووخز ضمير لما قدم علينا في الجزائر عالم من أعلام الإسلام الشيخ محمد الغزالي - رضي الله عنه- مجدد الإسلام للقرن الماضي وانتشرت كتبه في كل شبر من الجمهورية الجزائرية بسعر رمزي هو تكلفة الطبع فقط لأن الشيخ محمد الغزالي *رحمه الله* تنازل عن حقوقه المادية لصالح القارئ في الجزائر.

وانطلقت أشتري كتبه الواحد تلو الآخر وكدت أن أحفظ كل صفحة من كل كتاب كما كنت أحفظ أغاني عبد الحليم حافظ عن ظهر قلب ونظرت إلى المرآة فرأيت نفسي حقيرة أمام ما كنت أطمح أن أكونه وعاهدت نفسي أن لا تفوتني الدعوة الثقافية، والحضارية – يمكن أن نتغاضى عن ذكر الدين كمفهومية لأنها تأتي أوتوماتيكيا ضمن سياق ثقافي وحضاري خصوصا في هذا الزمن بالذات- بعد أن كدت أن أكون داعيا لمائدة الشيطان .
وكما اخترت الرياضيات كاختصاص بحكم تفوقي فيها الكبير حولتني كتب الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله- إلى قارئ لكتب الفكر والأدب والسياسة ولم يكن الحظ مسعفا لي أن واجهتنا الأزمة الدموية التي شتت فكرنا فأوقفتنا عن كل استمرارية في التحصيل الأكاديمي لأن الجامعة التي كنت أعرفها وأردت الانطلاق منها في الدراسات العليا هاجر جميعها وفروا بجلودهم وبقيت حسب ظني قاعا بلقعا.

فما ذا يفعل الواحد منا سوى الانصراف إلى حين وترتيب الوضع المكاني لمجمل أفكاره وما سطره كهدف أسمى بعد الغيبوبة الإيديولوجية.
قد يتطلب عندما تدلهم الأزمات وتنهال المصائب كالوابل أن ينحصر في خانة حيادية، ولا يفكر إلا في الحياة وقيدها هذا لو كان لا يعرف من الحياة إلا الاسم ونظرته البعدية لا تتعدى ثقب الباب المغلق عليه لكن وهو العارف مكمن الداء والداري لمربط الخنزير فهذا جبن ما بعده جبن لو سكت أو تشبه بالدهماء والجهلة والصعاليك الذين بصقتهم المدرسة في أول سنة ابتدائية من العيب أن نتساوى مع من يريد التكيف مع العفونة ويكون شعاره اتركها فهي مأمورة فالواجب العلمي يوجب على كل من كان قدره الحياة بين طيات الكتب أن يتحسس الواقع ويدعو لمائدة الخير مهما كانت النتيجة .

ولقد عانى أصحاب الدعوة إلى الحق من حموضة أفكارهم على غيرهم ولربما أصبحوا ذوي تهمة بينة أنهم على باطل ينثرون البلبلة ، والسجون ملأى بالأخيار الذين قالوا في الباطل ما لا يرضي المبطلين وإن كانت المهمة التي أدعي أني متكفل بها هي التعامل مع الكلمة الصادقة في ما أنشره وفي ما أكتبه ورغم الحصار الذي أراه ستارا واقيا لي ينفعني يوم العسر وهذا الحصار وإن كان جماعيا بيد أن شعوري به ككاتب يفوق كل شعور خصوصا وأنه حصار بالدرجة الأولى حضاريا وكنت أعلم أن هناك الأكثرية من كان يتمنى أن أكون ضمن المغنيين لا قدر الله أحتسي معهم الخمر وأسب المسلمين الأصلاء وأبيع ذمتي بدراهم معدودات أو أتملق لوزير و أذكر وزيرا قال لي بالحرف الواحد عليك أن تكتب على قطاعي فأجبته بأني لست للبيع وقطاعك أو ملكك سأكتب من أجله عندما تعرف أن الحقيقة كل لا يتجزأ وما دامت تناصر فلانا على حساب الحقيقة فسأكتب عكس ما تحبه وهذا الوزير شخصيا يعترف أننا طلاب حق ولسنا طلاب مراتب إلا مرتبة الشرف ولو كنا نريد ذلك لأكملت المسيرة مع الشعر الغنائي ولو كان هابطا فسيصعد بي نحو العلاء لكن حقيقة سيضيق صدري حرجا وأكون نادما يوم لا ينفع الندم.

إن المسار الذي رسمته لنفسي مسار يجعلني غريبا في وطني الأم مادامت الأغلبية تتعشق التماوت لما ترى الحق يهاجمهم وشعوري بوجودي بين ظهراني الأهل على اختلاف الرؤى والأهداف أستشعر الغربة الثقافية ، الغربة التي لا يفهمها سوى من تجرع حلاوة الحق ومرارة الواقع وانتشى من رحيق العلم الذي لا شبع منه وهل أمر من الغربة الثقافية لما تعيش بأوراق تبين هويتك في مجتمع ينحدر مع هوية الآخرين .
وعلى غربتي فلست نادما على مسلكي . فربما يصيبني حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :(فطوبى للغرباء).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة