- اسم الكاتب:د. سلمان العودة
- التصنيف:ثقافة و فكر
إذا كان الرجل العظيم هو من يجعل من حوله يشعرون أنهم عظماء، فذلك هو ما فعله موسى -عليه السلام- حين جعل من القوم المستضعفين بمصر قوة موحدة، تتحدى الطغيان وتفارق الأوطان، وهو ما فعله عمر الفاروق -رضي الله عنه- حين يمم وجهه شطر فارس والروم، وأطلق حركة الفتوح، وحقق نبوءة: (أخذ الدلو عمر فاستحالت غربا فلم أر عبقريا من الناس يفرى فريه حتى روى الناس)، ذاك ابن عمران، وهذا عمر، ذاك موسى الكليم، وهذا عمر الفاروق.
ومن لطائف التدبير السياسي الإسلامي؛ أنه إذا كان خلق الرجل العظيم يميل إلى اللين، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة؛ وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين؛ ليعتدل الأمر، كما ذكر العلماء، ولهذا كان هارون الموصوف باللين وزيرا لموسى الموصوف بالشدة في الحق، وكان عمر الموصوف بالشدة في الحق وزيرا لأبي بكر الصديق الموصوف باللين، وكان أبو بكر يؤثر استنابة خالد بن الوليد المعروف بالشدة، وكان عمر يؤثر عزل خالد، واستنابة أبي عبيدة بن الجراح؛ لأن خالدا كان شديدا، كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة لين كأبي بكر -رضي الله عنهم أجمعين-.
والحق ركنان: بناء وهدام.
ذاك عاصر فرعون المتأله وتربى في ظله، ولم ينتقص هذا من ثقته بنفسه، ولا إدراكه لهويته، ولا صدقه مع ذاته.
وهذا عاصر فرعون هذه الأمة وكان من أخواله، ولم يؤثر هذا على استقلال شخصيته، ولا إقدامه على اعتناق الدين الجديد.
ذاك نبي معلم مكلم، وهذا صديق شهيد ملهم، وكلاهما له من شفوف النفس وزكاء القلب وتواضع الكبار، ما يستلهم به موارد الحق ومواقع الصواب.
تشابها في الخلق والجسامة والطول، وتشاكلا في الأخلاق والطبائع والعقول.
الجاذبية والسر الغريب (الكاريزما)، القيادة الفطرية، والقوة الحيوية المؤثرة، قوة باعثة مشفوعة بالرحمة، لا قوة متسلطة طاغية، أولياء لله من هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل.
لا غرو أن يقارن الاسم الاسم، ويقارب الرسم الرسم.
نفوس صادقة مع ذاتها ومع ربها، فلا عجب أن تتصل قلوبهم بالسماء، فتكون راسخة في الطمأنينة، حتى عندما ترتجف الأرض من تحت الأقدام، صعد موسى عليه السلام الجبل ومعه سبعون رجلا من قومه، فرجف بهم الجبل، فقال: {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} (155:الأعراف).
وفي صحيح البخاري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد جبل أحد، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: اثبت أحد فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان ، انتهى الموقف بكل هدوء.
في أسرى بدر رأى أن يجندل الأسرى على جنوبهم، فكان شبيها لموسى: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم} (88:يونس).
أتى بصحيفة من التوراة، فبادره رسول الله: (لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي).
يذهل لخبر الرحيل، فيتمعر حبا، ويرقى المنبر متحدثا بالظن أن رسول الله ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى إلى ربه، كان يستحضر موسى حتى في هذه الليلة الظلماء.
غضب موسى للإسرائيلي المظلوم وأردى المعتدي، فكانت بداية مفاصلته للقصر وخروجه من مصر.
وغضب عمر من حصار ظالم فأعلن إسلامه وقاتل دونه، وهاجر علانية.
نمط من العظماء يتميز بالقوة والشدة والصلابة والحزم:
في الخطاب الموسوي: {وإني لأظنك يا فرعون مثبورا} (102:الإسراء).
وفي الخطاب العمري لأبي سفيان: (أنا أشفع لكم؟ لا والله، والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به).
يأخذ موسى برأس أخيه يجره إليه، في لحظة انفعال وغيرة على التوحيد، ويشتد عمر على أبي هريرة؛ حياطة للدين وخشية من سوء الفهم للوعد بالجنة لمن شهد شهادة الحق: (لا تبشر الناس أخشى أن تبشرهم فيتكلوا).
شدة موسى مع فرعون، مع بني إسرائيل، مع أخيه، حتى مع الحجر حين ضربه بعصاه حين ذهب بثوبه على ضفة النهر.
وشدة عمر على نفسه، وأمرائه، وأبنائه، وخدمه، حتى مع الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أنى رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك) (متفق عليه).
جرأة موسى حتى في حواره مع ربه حين سأل بإدلال المحب: {رب أرني أنظر إليك} (143:الأعراف).
جرأة عمر في صلح الحديبية: (علام نعطي الدنية في ديننا؟)، وفي الصلاة على "عبد الله بن أبي بن سلول": (أتصلي عليه وهو منافق؟, وقد نهاك الله أن تستغفر لهم)، وفي أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يا رسول الله, لو أمرت نساءك أن يحتجبن) (رواه البخاري ومسلم).
وجرأة أخرى في مراجعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي صحيح البخاري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسير فى بعض أسفاره ، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا ، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه وقال عمر بن الخطاب ثكلتك أمك يا عمر ، نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، كل ذلك لا يجيبك . قال عمر فحركت بعيرى ثم تقدمت أمام المسلمين ، وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي -قال- فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن . وجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه فقال "لقد أنزلت على الليلة سورة لهي أحب إلى مما طلعت عليه الشمس "، ثم قرأ (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) .
حسم مع رؤوس الخيانة بلا تردد، خطاب موسى للسامري كخطاب عمر لابن سلول.
انكسار لله: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} (16:القصص).
وقال عمر في خلوته: (عمر بن الخطاب أمير المؤمنين! بخ بخ.. والله لتتقين الله أو ليعذبنك).
غضب لله يثور ثم يسكت فيأخذ موسى الألواح.
يسمع عمر من يسبه: (والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل)، فيهم به فيذكره جليسه بـ{وأعرض عن الجاهلين} (199:الأعراف)، فوالله ما جاوزها وكان وقافا عند حدود الله.
شخصيات حاسمة عظيمة تصنع الفرق، بعد موسى عبدوا العجل واستضعفوا هارون وتآمروا لقتله، وكان عمر الباب الذي يكسر فتظهر الفتن.
التواضع والبساطة لا تمنع الهيبة والخشية من المؤاخذة، فهذا النمط الحازم لا يهادن الخطأ ولا يصبر عليه.
كان فرعون يخاف من موسى: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا} (35:القصص).
وكان عمر مهيبا يفرق الشيطان من ظله.
نكل بنو إسرائيل عن دخول القدس، ودخلها عمر بجند الله.
القيادة تحتاج لأتباع جيدين!
سقى موسى للفتاتين، وأبصر عمر نارا تضوي فقال: أرى قوما قصر بهم البرد والليل، فحمل جراب دقيق وشحم، وطبخ لهم، وسمع المرأة تقول: الله حسيبنا على عمر يتولى أمرنا ويضيعنا!
رقة أمام حالات الضعف الإنساني ونجدة وشهامة لا تعرف الرياء.
وعي بالمتغيرات وتكيف مع المستجدات، ما بين القصر إلى الاستخفاء إلى الصحراء إلى مدين، وما بين الإسلام العلني فالهجرة فالوزارة فالإمارة.
{القوي الأمين} (26:القصص)، توسم فتاة ذكية خليقة بأن تكون زوج نبي، وهما شرط النجاح القيادي في رؤية عمر: (أشكو إلى الله ضعف الثقة وخيانة القوي).
العدالة والأمانة وإجراء الحق على القريب والبعيد، ومواجهة التحديات والمصاعب بلا تردد، وتكريس الحياة للمبادئ العظيمة.
قيادة نادرة استثنائية تتخذ القرار الحازم الحكيم وتمضي إليه بثقة دون التفات، فربما كان بينها وبين الأتباع مسافة غطاها هارون المحبب في قومه، كما غطاها عثمان وأصحاب الشورى لدى عمر.
تمنى موسى القرب من الأرض المقدسة عند احتضاره، وكان في دعاء عمر: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتا في بلد رسولك.
أيقن موسى ألا فكاك من الموت فقال: رب فالآن، وقال عمر: اللهم كثرت رعيتي ورق عظمي فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيع.
موسى يلطم ملك الموت، وعمر يخاطب شابا بشأن إسبال ثوبه ويوصي بالمهاجرين والأنصار، وبطنه يثعب.
رباطة جأش حتى اللحظة الأخيرة:
عاشوا حياة واحدة، لكنها تشعبت وأشرقت في أرواح أحبتهم، وارتسمت في عيون لمحتهم، وألهمت من بعدهم معاني الصبر والإحسان والأمل.
هكذا كانوا ..
إياك أن تأخذ من موسى: {فوكزه موسى فقضى عليه} (15:القصص)، وتنسى: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي..} (16:القصص).
أو أن تأخذ من عمر: (لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به..)، وتنسى (أرى قوما قصر بهم البرد والليل..).
إياك أن تأخذ من موسى قوته وتنسى رقته.. أو من عمر حزمه وتنسى عدله..
هي معادلة الجناحين..
قوة اليد في أخذ الحق، وقوة الظهر في تحمل المسؤولية..
لا تطل يدك وتضعف ظهرك، ولا تنظر لزاوية دون أخرى.