دولة العلم والعلماء

0 1103
  • اسم الكاتب:أحمد الجوهري عبد الجواد

  • التصنيف:ثقافة و فكر

دولة الإسلام التي في خاطري، التي تسكن قلبي وتعمره، دولة تهتم بالعلم، وتعرف له مكانته اللائقة به؛ كما جاء في نصوص القرآن والسنة، وكما عهد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك عمليا، فالعلم هو منطلق الدولة للتقدم والريادة والبناء الحضاري، والعلماء هم حصن الدفاع الأول عنها.
ولقد كان العلم في دولة الإسلام بمكان كريم، والعلماء كذلك، فعزت وسادت، وكانت رايتها كالشمس، فلما انحطت مكانة العلم وانصرف عنه، وانخفضت مكانة العلماء في نظر القائمين على دولة الإسلام - ذلت ووهنت، وتسلط عليها القوي والضعيف والقريب والبعيد!

ماذا يحدث لو كانت دولة الإسلام دولة تهتم بالعلم وتقدر العلماء ؟
 يحدث الكثير، ومن ذلك الكثير أنه لن يبقى فيها رجل ولا امرأة، كبير ولا صغير، إلا أتقن القراءة والكتابة، فمحونا أمية الشعوب، وأطلقنا إسارهم من قيد الجهل هذا؛ كما علمنا بفعله نبينا صلى الله عليه وسلم؛ جاء في مسند الإمام أحمد عن ابن عباس : "كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة".
وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلم عشرة من الغلمان، يفدي نفسه.
وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه ممن تعلم الكتابة والقراءة من الأسرى.

وقبول النبي صلى الله عليه وسلم تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت - الذي كانوا فيه في أشد الحاجة إلى المال - يرينا سمو الإسلام في نظرته إلى العلم والمعرفة، وإزالة الأمية، وليس هذا بعجيب من دين كان أول ما نزل من كتابه الكريم: [اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم ] [العلق: 1 - 4]. واستفاضت فيه نصوص القرآن والسنة في الترغيب في العلم، وبيان منزلة العلماء، وبهذا العمل الجليل يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أول من وضع حجر الأساس في إزالة الأمية، وإشاعة القراءة والكتابة، وأن السبق في هذا للإسلام.
ومن ذلك أن ينطلق أولئك الذين خرجوا من إسار الأمية باللغة المحلية إلى معرفة اللغات العالمية التي يتكلم بها الناس من حولهم، أو ينتشر بها علم، أو تكون سببا في معرفة؛ فإن زيد بن ثابت لما أتقن القراءة والكتابة على أيدي أسرى بدر، أتاح له ذلك بعدها أن يتعلم لغتين، هما السريانية والعبرية؛ فعن زيد بن ثابت قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود، قال: (إني والله ما آمن يهود على كتاب)، قال: "فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له"؛ رواه الترمذي.
وفي رواية: "أمره أن يتعلم السريانية وعلل ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمن اليهود أن يقرؤوا له كتابا يأتيه منهم؛ لئلا يزيدوا فيه وينقصوا، أو يبدلوا ويغيروا، فتعلم زيد ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في نصف شهر.
وزيد بن ثابت من الراسخين في العلم، وهو شيخ المقرئين والفرضيين، ومفتي المدينة المنورة، وكاتب الوحي رضي الله عنه.

والتعرف على لغات الدنيا معناه الاطلاع على علومهم ومعارفهم، والتعمق في دراسة تجاربهم، فيحذر الشر والخطأ والزلل، ويستفاد من تجارب الخير والنفع التي فيها، ومن هنا يمكن التفاعل معها والزيادة عليها أو نقدها؛ كما فعل علماء أمة الإسلام، فقدموا بذلك خدمات جليلة للعالم، كان من أثرها أن بقيت الحضارة العالمية تستفيد منها عدة قرون، وأسست عليها نهضتها الحديثة.
إن دولة الإسلام التي أحلم بها، دولة تعرف قدر العلم، ولذلك فهي تنشط في تمكينه وتجذيره في أرجائها؛ تشيد المساجد، وتبني المكاتب والمدارس والمعاهد والدور والجامعات، وتنشئ المطابع والمكتبات والنشرات، وتقيم المؤتمرات، وتدعم المجامع العلمية الكبرى، وتؤسس شراكات علمية كبرى بين إداراتها، بل مع الدول الأخرى المجاورة لها، ذلك كله لتخريج أجيال من القادة والعلماء؛ يبنون على أسس متينة من البداية إلى النهاية، ويرون الكون كيف ينفع أحفاد محمد الدنيا بالعلم كما نفعوه بالهدى!

والعلماء في دولة الإسلام التي في خاطري ذوو شأن وجاه خاص، إنهم بالمحل الذي أنزلهم الله إياه، دعاة وهداة، وأدلة على الخير، ومرشدين للناس جميعا إلى طريق الصواب، يقولون للمحسن: أحسنت، ويشيرون بإثابته، ويقولون للمسيء: أسأت، ويوجهون بمعاقبته، وهم في المشورة والوزارة والقضاء، والفتيا والتدريس، والوظائف العامة - أهل إتقان وقدوة لسائر الناس، يخصهم الحاكم المسلم بالمشورة - كل في تخصصه - ويشير عليهم أهل كل صناعة في صناعتهم.
ولعلماء الشرع مزيد اختصاص عن غيرهم من أهل الفنون والصناعات بالحكام والأمراء، وعلية الناس، فهم ينصحونهم فيما يرون من الخير أهلا لأن يفعل، وينصحون لهم بشأن الشرور التي يجب أن تقطع ؛ أداء للأمانة التي أخذ الله عليهم الميثاق بشأنها؛ ليبينوا الحق الذي آتاهم للناس ولا يكتموه.
خرج شيخ الإسلام عز الدين بن عبدالسلام مرة إلى السلطان في يوم عيد - إلى القلعة، فشاهد العساكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوء لك بملك مصر، ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون، فقال: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي، فقال العز: أنت من الذين يقولون: [إنا وجدنا آباءنا على أمة ] [الزخرف: 22]، فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة.
ليس المقصود أبدا من قرب العلماء إلى الحكام أن يستخدمهم الحكام لتسويغ أقوالهم وأعمالهم، وتمرير رؤاهم مهما يكن نظر الشرع إليها، فيتجبر الحكام على العلماء بما آتاهم الله من قوة السلطان، وليس المقصود كذلك أن يتجبر العلماء على الحكام، أو يعالنوا الناس بمخالفاتهم، ويجرئوهم على جاههم بما آتاهم الله من قوة الحجة وسلطان القرآن، كيف وهم معا عباد الله المأمورون بإقامة الدين وحفظ الدولة، والتعاون على البر والتقوى؟!

لكنه الحرص من الأخ على أخيه أن يقع في محارم الله فيهلك، ومن ثم ينصحه ويرشده ويهديه.
إن دور العالم في دولة الإسلام دور مهم، إنه الميزان الذي توزن به الأقوال والأفعال، ولهذا يجب أن يكون نقيا وطاهرا، ويجب أن يكون كفئا لمكانته، وأهلا لما انتصب له، ويجب أن يكون متقيا لربه ،عاملا بأوامره، منتهيا عن نواهيه، وقافا على حدوده، وأن يحافظ على نفسه من التفريط في الواجبات، والاقتراب من المنهيات، والوقوع في الشبهات، وأن يجعل الشرع الحنيف مرآته فيما يأخذ ويذر، ويعطي ويمنع!
فإن استطاع العالم أن يكون كذلك، كان أهلا للقيام بالحق والوعظ به، وهداية الناس جميعا - حكاما ومحكومين - إلى طريق الصواب والهداية، وإقامتهم على الحق والعدالة.
لقد قرأت تاريخ الأمة الإسلامية في كتب المسلمين وغير المسلمين، فما عرفت أمة من الأمم حظيت بهذا الإجماع من قبل الباحثين على أنها اهتمت بالعلم، وزخرت بالعلماء المتخصصين في كل ميدان، حتى بزت الأمم وفاقتها.

لقد كان الملوك والوزراء والأمراء والعامة، الأثرياء والفقراء، رجال الحكم والحاشية، وأفراد الشعب والرعية، الرجال والنساء، الكبار والصغار، العرب والعجم، كان الجميع يحرصون على طلب العلم وتلقيه عن أهله، والعكوف على إتقانه وبلوغ الكمال فيه.
ولقد رأينا ملوكا في سدة الحكم يساوون بالأئمة في العلم والمعرفة بالشرع والاجتهاد في مسائله، وقد ورد أن الإمام مالك قال في شأن مقابلته للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور: ثم فاتحني - يقصد أبا جعفر - فيمن مضى من السلف والعلماء، فوجدته أعلم الناس، ثم فاتحني في العلم والفقه، فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه، وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظا لما روي، لقد جمع أبو جعفر بين الإمامتين: إمامة العلم وإمامة الحكم.
وكان لا يجهل ذلك من نفسه، فقد قال لمالك في مقابلته له بمنى: لم يبق في الناس أفقه مني ومنك، وفي رواية: يا أبا عبدالله، ذهب الناس فلم يبق غيري وغيرك، ويؤكد ذلك مناظرات دارت بينه وبين مالك في المسجد النبوي.

وأما من نبغوا من رجال ونساء الأمة من العرب والعجم في هذا المضمار - فتحدثنا عنهم أفواه الأيام والليالي، فهي تبصرهم كما تبصر الشمس والقمر، لتحدثنا عن أخبارهم في حلقات العلم؛ إقراء وتحديثا، دراسة ومناظرة، إملاء وكتابة، شرحا وتحشية، عرضا وتقديما، تحليلا ونقدا .. إلخ.
لتحدثنا عن كتبهم؛ تفاسير وصحاحا، مسانيد ومعاجم، مطولات وأجزاء، رسائل وأقاصيص، كتب طب وجبر وكيمياء، وأحياء وفلك، وكتب عروض وفروض .. إلخ.

لتحدثنا عن علومهم؛ قرآنا وسنة، نحوا وصرفا وأدبا وبلاغة، فقها وأصولا، تاريخا وأخبارا وأنسابا، جبرا وإحصاء وهندسة، طبا وكيمياء وفلكا ... إلخ.
لتحدثنا عن إبداعهم علوما وفنونا واختراعات، لم تسمع الدنيا بها قبلهم، ولم يفض بكارتها غيرهم.
لتحدثنا عن شغفهم بمسائل العلم، حتى ليود أحدهم أن تكون أعضاؤه جميعا آذانا؛ لتصغي له بألوان مختلفة من السماع، وعن شغفهم بالكتب والمكتبات، حتى يبيع أحدهم أعز ما لديه من أجل شراء كتاب.
لتحدثنا عن ذلك كله، وعن غيره من أمور لا تحصى، كلهن عجائب، فعجائب العلم والعلماء في دولة الإسلام لا تنقضي، وحديثهم يجلو الفؤاد الصادي.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة